أجهَضَت أمي حملها بضغط من أبي، لكنها لم تحتمل الشعور بالذنب طویلًا؛ فحمَلت وأخفت حملها حتى استحال إسقاطه؛ وكأنها قررت أن تمحو ما اعتقدت أنه خطأ في حق ﷲ؛ ركزت – كما كانت تقول- حتى حملت وجاءت بأجمل أخوتي. وأجهَضَت زوجتي في بدایة حیاتنا معًا ثم عاشت عمرها تحاول محو ما ظنّته خطأ، حتى ماتت وهي تحاول.
خلال عملي كطبیب نفسي قابلت عشرات النساء اللاتي حملن وأجهضن وعِشن بعذابات “قتل نفس بغیر حق”، والخوف من انتقام ﷲ والشعور بالذنب والعار لما فعلنه.
وقد حاولت كثيرًا أن أتقمّص مشاعر الذنب التي عاشتها أمي وزوجتي وكل الفتیات اللاتي عملت معهن كي أتعلم كیف أساعدهن، وكثيرًا ما قام عقلي الطبي بربط آلامهن وشعورهن بالذنب بالأصل التحلیلي الرابط بين الاكتئاب والشعور بالذنب بالفقد الناتج عن الإجهاض، وهو فقد لم یحدث نتیجة لمعایشة طفل ولد وعاش ثم فُقِد بعد وقت، ولكنه فقد ناتج عن اقتطاع جزء حي من الجسد، یبقى أثره في المخ لسنوات عدیدة، وذلك بالإضافة إلى القهر الاجتماعي والدیني الذي یجرِّم ذلك الفعل ویساویه بقتل إنسان، فماذا لو كان هذا الإنسان طفلك؟ هكذا كان عقلي السیكودینامي (التحلیلي) البیولوجي یفكر ویحلل ویحاول تفسير الشعور بالذنب المتزامن مع الإجهاض.
انقشاع الوهم في عالمٍ موازٍ
كنت في ألمانیا في الصیف الماضي، وبعد مقابلة عمل مع إحدى الزمیلات، عرضت عليَّ بصفتي طبیبًا أن أذهب معها في لزيارة طبیب النساء لعلي أستطیع المقارنة بين الخدمات الطبیة في بلدي ومثیلتها في ألمانیا، فشعرت بالإحراج الذي یشعر به أي رجل یذهب مع امرأة لیس على علاقة بها إلى طبیب نساء.
في طریقنا إلى العودة، ودون أن أسألها، قالت إنها ذهبت للعیادة من أجل عملیة إجهاض، لأنها مرتبطة بمشاریع بحثیة هذا العام، كما أن الطفل جاء دون تخطیط، ثم انتقلت إلى مواضیع أخرى. حاولت أن أعثر على شعور بالذنب أو الارتباك أو الخوف من الانتقام، ولم أجد أي منها لدیها، بالعكس، وجدت بعضًا منها بداخلي أنا.
الإجهاض فعلاً طبیعيًّا یوميًّا
الإجهاض هو توقف اكتمال الحمل بالخروج التلقائي أو نزع الخلایا المخصبة من الرحم قبل 22 أسبوع من الحمل، أي قبل أن تصبح قادرة على الحیاة بشكل مستقل عن رحم الأم، والإجهاض یمكن أن یحدث تلقائیًّا أو بتدخل خارجي طبي أو غیر طبي، وإذا حدث إسقاط أو فقد الجنین بعد 22 أسبوع، یطلق علیه مولود میت؛ إذ في هذه المرحلة یكون كائنًا قادرًا على الحیاة منفصلًا عن جسد الأم.
تنتهي ما بین 10٪: 50% من حالات الحمل بإجهاض تلقائي، وتصل النسبة في بعض المسوح إلى 70٪. ومعظم الحالات تحدث في وقت مبكر جدًا من الحمل، لدرجة أن إحدى وجدت إحدى الدراسات أن 61.9 ٪ من الأجنَّة فقدت قبل 12 أسبوعًا، و91.7 ٪ من هذه الخسائر وقعت دون علم المرأة الحامل نفسها ودون ظهور أي أعراض جسدیة فضلًا عن عدم ظهور أي من المشكلات النفسیة.
الجسد إذن يقوم تلقائيًّا بالإجهاض بشكل طبیعي لا ینتظر قوانین أو تشریعات أو فتاوى؛ فبعض الأجسام – لأسباب غیر معروفة غالبًا – ترفض الاحتفاظ بالخلایا الجنینیة داخلها وتلفظها سریعًا أو بطیئًا، مبكرًا في عمر الجنین أو متأخرًا، ویمكن للحمل أن یستمر فقط عندما یكون الجسد جاهزًا بیولوجیًّا لاستقبال واحتضان الجنین، وعندما تكون خلایا الجنین خالیة من التشوهات العائقة.
فهل ینطبق هذا الترتیب على الاستعداد النفسي؟ بمعنى أن یعامل كالاستعداد الجسدي، ویكون من حق المرأة أن ترفض الاحتفاظ بالجنین فقط لأنها غیر مستعدة نفسیًّا، لا لأن حیاتها معرضة للخطر كما تنص التشریعات الحالیة، وذلك أسوة بجسدها الذي یمكنه أن یرفض الجنین في حالة عدم استعداده بیولوجیًّا.
الآثار النفسیة ووهم اكتئاب ما بعد الإجهاض
في دراسة أجريت عام 1990، وجدت الرابطة الأمریكیة لعلم النفس (APA) أنه “نادرًا ما تحدث ردود فعل سلبیة شدیدة بعد الإجهاض، وإذا حدثت تكون متماشیة مع ضغوط الحیاة الطبیعیة الأخرى”. وقامت الرابطة بمراجعة وتحدیث النتائج التي توصلوا إلیها في أغسطس 2008 للأخذ في الحسبان الدلائل الجدیدة، ومرة أخرى توصلوا إلى أن الإجهاض المتعمد لا یؤدي إلى زیادة مشكلات الصحة العقلیة.
لماذا إذن یشعرن بالذنب؟ یُسقط المجتمع غضبه وشعوره بالذنب على المرأة؛ فهي تعاقب مرات عدیدة؛ مرة لأنها ولدت أنثى، وتعاقب لأنها كبرت وأصبحت بنتا تجذب الفتیان، ولأنها جمیلة، ولأنها مثیرة، ولأنها لا تُمارس الجنس وباردة، وتعاقب أكثر لأنها تُمارس الجنس وفاسقة، وإذا حملت عوقبت لأنها أصبحت مثل البلاص خصرها مثل عجزها – كما اعتاد أحد أساتذة التشریح في كلیة الطب أن یقول – وإذا لم تحمل عوقبت لأنها عقیم، وإذا ولدت عوقبت لأنها مریضة ومشغولة بالوليد عن زوجها؛ كل هذا العقاب تأخذه المرأة وتدمجه ذاتیًّا في مشاعر ذنب واحتقار وعقاب شخصي لأي فعل إیجابي أو سلبي تقوم به؛ لیتكوَّن داخلها شعور مزمن بالذنب مثل خرّاج مليء بصدید، وعندما یحدث الإجهاض ینفجر هذا الخرَّاج في وجهها بكَم من المشاعر المؤلمة.
الاغتصاب مرتان
في بلادنا إذا اغتصبت امرأة فإنها تغتصب لمرتین، مرة لأن مجرمًا اعتدى علیها، وأجبرها على ممارسة الجنس ضد رغبتها، ومرة أخرى لأنها أجبرت قانونیًّا أن تحتفظ بخلایاه داخلها، فكأنما الدولة هي من أودعت الجنین في رحمها وتركته هناك تحت مسؤولیتها، وكأنما تخلصها منه هو إهمال لتلك المسؤولیة یستوجب السجن المشدد، أي خلل هذا! هل یتخیل رجل أن جسده رهینة لدى الدولة تضع فیه جنینا حتى یلده؟!
ویكون على المرأة المُعتدى علیها أن ترعى خلایا مغتصبها كارهة مكرهة حتى تكتمل إلى جنین غیر مرغوب فیه، یفرض علیها تذكر ما حاولت تجاوزه ونسیانه مدى الحیاة، وقد حاولت دار الإفتاء منع الاغتصاب الثاني باستصدار فتوى في 2015 تسمح للمغتصَبة بالإجهاض إلا أنها لم تلق قبولًا حتى الآن من المشرعین.
وإذا الموءودة سئلت
بعد أن توقف عن تعاطي المخدرات بستة شهور وبدأ یستعد للخطوة الثامنة والخاصة بتعویض الأشخاص الذین قام بإیذائهم في رحلة إدمانه، أخبرني “م” وهو يبكي بتشنج أنه دفع أخته من بلكونة الدور الثامن، وهي تنشر الغسیل في بیتهم بدمیاط وذلك بعد أن أبلغته أنها حامل، بعد عدة شهور من اعتیاده الدخول إلى سریرها وهو عائد إلى المنزل تحت تأثیر المخدرات.
وقد عایشت، كطفل نشأ في قریة مصریة، حوادث قتل الفتیات الصغیرات؛ إما لأنهن علقن مع شاب، أو اعتدى علیهن أخ أو أب أو أحد أفراد العائلة، ولأنه لا یمكن قانونیًّا التخلص من الجنین الفضیحة، فكان لا بد من التخلص من “حاملة الفضیحة” وهي الطفلة الصغیرة منزوعة الحول والقوة، ویحدث ذلك وسط تواطؤ الآلاف من رجال ونساء القریة، ومكاتب الصحة التي تستخرج تصاریح الدفن، وما أزال أذكر جارتي التي اعتادت أن تلعب معنا الكرة ونحن أطفال وأعلن عن موتها فجأة، وسمعت أمي ونساء القریة یتهامسن عن قتلها بالخنق بواسطة العم بینما هرب الأب الى القاهرة لیتجنب ضعفه تجاهها، وذلك بعد أن اكتشف حملها من خطیبها الذي كان سیتزوجها بعد شهور.
أخبرتني الدكتورة “س” والتي تقوم بعملیات إجهاض لكثیر من الفتیات غیر المتزوجات لحمایتهن من حمل طفل غیر شرعي، ومن ثم تعرضهن للقتل أو السجن أو العار على أقل تقدیر، أن مراهقًا لا یجاوز عمره السابعة عشرة جاءها مع أخته الحامل منه، والتي كان عمرها ثلاثة عشرة سنة، لكي ینهي حملها، وأنهما لم یحضرا في الموعد المقرر للعملیة، مؤكدة أنه في الغالب تخلص منها لینجو بفعلته، وأنها اعتادت مثل تلك الحوادث.
الإجهاض في قانون العقوبات المصري
تعتبر المواد ٢٦٠،٢٦١،٢٦٢،٢٦٣ من قانون العقوبات المصري إسقاط الحوامل جنحة، قد تصل إلى جنایة حسب الوسیلة المستخدمة في الإجهاض، والمرأة التي تقوم بالإجهاض سواء بتعاطي الأدویة أو من خلال طبیب، تعاقب بالحبس مدة تصل إلى ثلاث سنوات، وقد تصل الى الحبس المشدد، وبحسب المواد نفسها فإن الطبیب أو الصیدلي أو الجراح الذي یقوم بالإجهاض سواء بإجراء عملیة جراحیة أو بإعطاء المرأة أدویة تساعد على الإجهاض دون ضرورة طبیة، قد تصل عقوبته للسجن المشدد، والحالة الوحیدة التي یباح فیها الإجهاض في مصر إذا اعتبر إنقاذًا للمرأة الحامل من خطر جسیم یهددها كالموت.
الإجهاض الشعبي طریق الموت السریع
تقدر النسبة العالمیة للإجهاض ب 26 حالة إجهاض متعمد لكل 100 حالة حمل معروفة. وتخضع ملایین المراهقات والنساء في مصر للإجهاض غیر الطبي، مما یعرضهن للموت أو للإصابات الشدیدة والتي قد تصیب قدرتهن على الحمل والإنجاب لاحقًا. ومن نتائج منع الإجهاض أن مستشفیات وزارة الصحة المصریة تعالج كل سنة 336 ألف امرأة من آثار الإجهاض نحو ألف امرأة یومیًّا، إذ أن 65٪ منهن كان إجهاضهن غیر تلقائي؛ تم إحداثه أو التدخل فیه، والأرقام الواقعیة أضعاف ذلك بالطبع، وهي لنساء أجهضن بشكل غیر سلیم طبیًّا، فإذا طُبق القانون كما یطالب معارضو الإجهاض فهل سیتم إیداع مئات الآلاف من النساء في السجن؟
أغلب من تعرضن لعملیات الإجهاض غیر الآمن كن نساء متزوجات ولدیهن أطفال ولا یرغبن في المزید، وكانت 61٪ منهن أمیَّات، وهذا یعني أن نحو 218 ألف امرأة فقیرة سنویًّا تحاول أن تُجهض نفسها، أو تلجأ إلى عیادات “بیر السلم” للحؤول دون إنجاب طفل لا ترغب فیه، أو لا تستطیع تحمل تبعات إنجابه، ونتیجة لرداءة العلاج اللاتي تعرضن له اضطررن للذهاب إلى المستشفیات الحكومیة لعلاج ما أفسدته العیادات غیر المرخصة، بینما تذهب مئات الآلاف من نساء الطبقة المتوسطة والعلیا للبحث عن علاج في عیادات ومستشفیات خاصة لتلقي علاج أكثر كلفة وأعلى جودة بعیدًا عن عیون الدولة والقانون.
ومن ناحیة أخرى، فإن آلاف البنات والنساء اللاتي لم یجدن وسیلة لإجهاض أنفسهن یلدن أطفال لا یرغبن فیهم، أو لا یستطعن تحمل تكالیف رعایتهم، فیقمن بتركهم في المستشفیات أو أمام المساجد أو حتى في صنادیق القمامة، أو لیتحوّلوا بعد ذلك إلى أیتام في الملاجئ أو یباعوا في سوق الرضَّع.
سوق الرضع
بحكم مهنتي رأيت أمهات لم یلدن أطفالهن؛ بعضهن كفلن طفلًا من أحد مراكز الأطفال بلا سند؛ لیعانین مشكلات الاسم ودخول المدرسة ودخول النادي والمیراث.. إلخ، وبعض الأمهات خالفن القانون وقمن بشراء أطفال الأخریات، وذلك عبر امرأة وسیطة لیتجنبن كل الصداع السابق. فتجریم الإجهاض من ناحیة وتجریم التبني من ناحیة أخرى قد خلق سوقین أسودین، واحد للإجهاض والآخر لمن لم یلحقن بالسوق الأول، اسمه “سوق الرُضَّع” الذي یلبي احتیاجات النساء اللاتي حملن ضد رغبتهن وذلك بمساعدتهن التخلص من أجنتهن، وكي یساعد النساء غیر القادرات على الحمل بالحصول على رضیع حسب الطلب، وتكثر المواقع الإلكترونیة الخاصة بهذه الأنواع من الخدمات إذ تقوم نساء عادة یعملن في المستشفیات بالتقاط النساء الحوامل والراغبات في إنهاء حملهن بمساعدتهن على ذلك، ثم تأخذ الرضیع حدیث الولادة وتمد الزبون المنتظر به مقابل مبلغ یتراوح من عشرة إلى 20 ألف جنیه، والذي بدوره یستخرج شهادة میلاد للطفل بـ 50 جنیه باسمه واسم زوجته وهكذا یرتاح الجمیع، الأم الحدیثة وتاجرة الرضع وموظف مكتب الصحة المرتشي والمشِّرع المطمئن لتنفیذ القانون، الجمیع إلا المرأة التي حملت ضد رغبتها ومنعت من حقها الطبیعي في إنهاء حملها واضطرتها ظروفها القاسیة وحكم القانون والمجتمع القاسي للتخلي عن رضیعها.
وقد قدَّر مسح الصحة والسكان لعام 2005 أن 19% من موالید السنوات الخمس السابقة على المسح كانوا أطفالًا غیر جاءوا نتیجة لحمل غیر مرغوب، أو لتعذر الوصول إلى أدوات منع الحمل، وقد اتضح أن هذه النسبة تزداد مع زیادة عدد الأبناء وتقدم عمر الأم حتى أن 40 % من أبناء الطفل الرابع فما فوق كانوا موالید غیر مرغوب فیهم أصلًا، ویشیر المسح إلى أن النساء تضطر إلى رفض الإنجاب إما بسبب العمر أو الصحة أو الوضع الاقتصادي أو لمجرد أنها لا ترغب في ذلك.
أي أن 1\5 من الموالید على الأقل و40٪ من أبناء الطفل الرابع فما تلاه والذي یمثل ملایین الأطفال هم أولاد وبنات غیر مرغوب فیهم، فما الآثار السلبیة لذلك؟
كثير من الأطفال یجیئون من زواج غیر تقلیدي، عرفي أو غیره، ويضع منع الإجهاض المرأة في معضلة إثبات النسب حتى أنه یوجد ما یقدَّر بـ 20 ألف قضیة نسب معلقة في المحاكم.
كما تخبرنا الأبحاث والمسوح المیدانیة أن الأطفال غیر المرغوب فیهم یتعرضون أكثر لمشكلات نفسیة وجسدیة، ویكثر بينهم التعثر الدراسي والسلوك الإجرامي، وعندما یكبرون یعانون من اضطرابات نفسیة شدیدة، وتمتد هذه المعاناة إلى أطفالهم هم كذلك، حتى أنهم یكونون الأكثر إقامة بالمستشفیات النفسیة هم وأبناؤهم، وذلك مقارنة بالأطفال المرغوب فیهم وأبنائهم.
خسائر النساء
تركت “ب” أهلها بالخلیج وعادت الى مصر لتلتحق بالجامعة في عمر 16 سنة، كانت مراهقة عندما أغرمت بزمیلها وذهبت معه إلى بیت أهله لیتقاربا سریعًا، وعادت لتقضي مع أهلها إجازة الصیف بالبلد الخلیجي لتكتشف في أثناء فحص طبي بسیط أنها حامل في شهرین، تعود إلى مصر دون أن تخبر أمها بأمر الحمل، وتبدأ وحدها البحث عن طریقة لإجهاض نفسها ودون مساعدة من صدیق أو قریب في رحلة مهینة وحافلة بالاستغلال المادي والجنسي والإهانات المستمرة، حتى وصلت للشهر السابع من الحمل دون أن تنتبه لها ولحملها الأم النرجسیة أو الأب المنشغل بنجاحه الأكادیمي.
عندما ولدت جاء الجنین میتًا، أو هكذا قالت لها الممرضة في عیادة “بیر السلم” بحي فیصل الشعبي بالقاهرة، مع أنها سمعت صوته لكنها أقنعت نفسها بقصة الموت لتبدأ رحلة جدیدة ملیئة بالاستغلال والإهانة للبحث عن طبیب یعید مهبلها لحالة العذریة.
تُجرى عملیات الإجهاض في مصر في أجواء شدیدة الرداءة والسریة، كما أن البحث عن عیادة أو مستشفى جید لإجراء الإجهاض هي عملیة مفخخة دائمًا، وأشبه بالبحث عن دولاب مخدرات، أخبرتني الدكتورة “أ” وهي معالجة إدمان أنها كانت تضطر أحیانًا لإعطاء اسمها وهویتها للمستشفیات، باعتبارها امرأة متزوجة لتوهمهم أنها من ستقوم بالإجهاض؛ لتغطي على فتاة مدمنة حملت إما واعیة أو غیر واعیة وهي تحت تأثیر المخدرات، وكان لا بد من الإجهاض لأنها إما غیر متزوجة وسوف یقتلها أهلها أو أنها متزوجة ولكن جنینها سیأتي بالتأكید مشوها، وعندما أصیبت (أ) نفسها بالحصبة وكانت حاملًا ونصحت بالإجهاض، وكان علي طبیبها أن یجهز نتیجة تحلیل دم یثبت فیها أنها تنزف وحیاتها في خطر لكي یكون الإجهاض قانونیًّا.
عندما رأیتها لأول مرة كانت شدیدة الاضطراب فحسبتها فصامیة، وتدریجیًّا مع العلاج بدأ التحسن والتواصل لتحكي ما أخفاه الأهل عني؛ لقد حملت اغتصابًا من زوج عمتها، ولإخفائها عن العیون اضطرت العائلة لحبسها في غرفة منعزلة أسفل المنزل، وقیل إنها سافرت، حتى ولدت وفِي الوقت نفسه تظاهرت العمة أنها حامل كي تضم الرضیع في النهایة إلى بناتها الثلاثة، لتدخل ضحیتنا في نوبات من الذهان وجولات من أطباء النفس مع الحفاظ على الإقامة الدائمة في محبسها خوفًا من أن تفضحهم.
يذكر تقریر صدر عن صندوق الأمم المتحدة للسكان عام 2009 أن تلبیة الاحتیاجات فیما یتعلق بتنظیم الأسرة والخدمات الصحیة للأمهات والموالید یمكن أن تمنع وفاة نحو 400 ألف امرأة و1.6 ملیون مولود، كما یمكن أن یحد من الحمل غیر المرغوب فیه بأكثر من الثلثین ومن عملیات الإجهاض غیر الآمنة بنحو 75%.
أما في مصر فلا توجد معلومات دقیقة عن وضع الإجهاض؛ إلا أن دراسة نشرت على موقع المكتب المرجعي للسكان Population Reference Bureau ذكرت أن ثلثي عینة من نساء محافظة القاهرة أقررن أنهن حاولن الإجهاض، وشملت العينة نساء متزوجات وغیر متزوجات، وأن 40٪ من عینة أخرى في صعید مصر قد جربن الإجهاض على الأقل مرة واحدة في حیاتهن، بینما25 ٪ أجرینه أكثر من مرة، وفي دراسة أخرى 30% من النساء الذین زرن المستشفیات بسبب الإجهاض كان إجهاضهن متعمدًا، بینما كانت النسبة أكثر من 60% بالإسكندریة، وهذه الأرقام تعني أنه من كل حالتي حمل هناك حالة إجهاض أي أن نصف نساء مصر اللاتي حملن قد حاولن الإجهاض على الأقل مرة واحدة في حیاتهن.
التجاوب الرشيد
أخيرًا قامت بعض الدول ذات الأغلبیة الإسلامیة في الشرق الأوسط، بوضع حد لهذه الدائرة المُفرغة والمفزعة من الإیذاء النفسي والبدني والاجتماعي، بكسر الحلقة التي تجبر المرأة على الاحتفاظ بحمل لا ترغب فیه، محاولة لإنقاذ ما یمكن إنقاذه، فقننت الإجهاض، وهي: البحرین وتركیا وتونس.
قنَّنت تونس الإجهاض وسمحت به منذ1973، وهو قانوني ومجاني ویُجرى بناءً على طلب المرأة حتى ثلاثة أشهر من الحمل، كما قنَّنته تركیا في 1983.
وكما حدث في الدول الأوروبیة التي قننت الإجهاض، فإن عدد من یجرین الإجهاض منذ تقنینه في تونس وتركیا قد بدأ في الانخفاض التدریجي؛ ففي تونس انخفضت النسبة من 9.79٪ عام 1988 إلى 6.54٪ 2014 بنسبة انخفاض تتجاوز ال 30٪ إذ أصبحت المرأة أكثر وعیًا واهتمامًا بصحتها وقدرتها على تحدید وتنظیم الحمل وتوقیته.
ولأن النساء والرجال یمارسون الجنس، ستحمل بعض النساء ضد رغبتهن، غصبًا أو مصادفة أو خطأ أو اندفاعًا، وسیرغبن في التخلص من حملهن سواء وافق القانون أو لم یوافق، بعضهن ستُجهض في عیادات “بیر السلم” الحقیرة، ومن ثم تتعرضن لأزمات صحیة، قد تصل إلى الموت، وبعضهن سیكملن غصبًا لولادة أطفال غیر مرغوب فیهم، تلتقطهم الأیدي الغریبة لتلقیهم في صنادیق القمامة أو في ملاجئ الأیتام أو كي تبیعهم في سوق الرضع.
كلنا متضررون، نساء ورجالًا، وأولادًا وبناتً یجیئون للحیاة ضد رغبة والدیهم.
ولن تستطيع المرأة التي لا تملك السلطة على جسدها، أن تقرر من ومتى ومن أین ینمو جنین داخلها، فهي مقیَّدة ومجبرة أن ترهن جسدها لخلایا مغتصب أو زوج غشوم أو مصادفة عمیاء وهو ما لا یقبله ضمیر عادل أو قلب رحیم.