اتصلت بي أمينة منذ ثلاثة أعوام وقالت لي إنها رشحتني للكتابة عنها.. كانت قد تلقتْ مكالمة من معهد العالم العربي بباريس، عرفتُ منها أن المعهد بصدد إصدار كتاب عنها، في إطار مشروع “مائة كتاب وكتاب” الذي يتناول مائة شخصية عربية وفرنسية أثرت الحوار الفكري بين ضفتي المتوسط على مدار قرنين. ترددت في البداية؛ لقد كتب الكثيرون عن أمينة، وأقيمت الاحتفاليات العديدة لتكريمها داخل الجامعة وخارجها، في مصر وفرنسا.. ماذا عساي أن أضيف إلى كل ذلك؟
لم تكن فقط حيرة وشك في قدراتي، بل كان هناك خوف، خوف من كتابة تستلزم الاقتراب الشديد من سطوعها، والغوص في منطقة نائية من نفسي ألتقيها فيها ولم تكن بي قدرة على استدعائها. صعوبة استعادة تاريخ طويل جمعتنا أحداثه الكبيرة وتفاصيله الصغيرة، مئات الذكريات التي شكلتني.. محاضراتها وأنا أدرس في قسم اللغة الفرنسية وآدابها بالسنة الثانية والسنة الرابعة، مدرج 38، وبودلير وقصائد “أزهار الشر”، مدرج 304 والسرياليون وأندريه جيد ورواية “مزيفو النقود”، طرقة الدور الرابع في المبنى الجديد وأنا أقف بجوار باب غرفة قسم فرنسي، أطلب منها الإشراف على رسالتي للماجيستير، مئات الصفحات المكتوبة بخط اليد السيئ والمليئة بقصاصات ملصقة تحمل استشهادًا من هنا وملحوظة من هناك في مسودات لانهائية لفصول الرسالة. كان عليها أن تفك شفرات تلك الصفحات، حتى صرحت لي بعد سنوات أنها لا تستطيع قراءة تلك الأوراق المتناثرة، وطلبت مني بعد طول صمت وصبر أن أقدم لها أوراقًا مكتوبة بشكل مقروء. وقوفي بجوارها في واحدة من التظاهرات الطلابية بالجامعة عام 1986 وطلبها أن أبتعد عنها لأنها مراقبة ولا تريد أن يلحق بي أي أذى. بيت المبعوثين بإضاءته البنية والدخان يسكن أركانه، كنبة البلكونة ذات السور العالي المبنى وزرعات الصبار.. الندوات التي كانت تجمع الطلاب والأصدقاء ووجوه لا حصر لها من مثقفي الثمانينيات والتسعينيات، جلسات رسالة الماجستير ومن بعدها الدكتوراه، مقعدها الأثير الذي كانت تغوص فيه بجانب شباك الصالة، أجلس أنا على الكنبة المقابلة، وأمامنا مائدة تتناثر عليها الكتب وطبق به فاكهة أو بعض المكسرات.. أحكي وتصغي، ثم تقول كلمات قليلة كانت دائمًا تكفي لكي أفهم.. استمرت اتصالاتنا التليفونية على مدار سنوات تبعث برنينها المتواصل في سكون الصباحات الباكرة لبيوتنا. وفي الأعوام الأخيرة عندما كنت أتصل بها فلا يأتيني صوتها أولاً، بل صوت مرافقتها، ثم أنتظر قليلا حتى تتحدث إلىَّ.. تخنقني غُصة.
ظللت لفترة لا أدري ماذا أكتب. أخشى من تلك المغامرة. مغامرة لأنني لم أكن أعلم تمامًا ما ينتظرني في رحلة إعادة قراءة أمينة رشيد.. فأمينة أستاذتي منذ كنت طالبة في السنة الثانية من كلية الآداب بقسم اللغة الفرنسية وآدابها، وهي مشرفتي في رسالتي الماجيستير والدكتوراه، هي معلمتي وسندي والمثال الذي لم ينطفئ بريقه قط، وصديقتي وملاذي..
تكشفت صورة أمينة عبر رحلة الكتابة عنها تختلف عن صورة الأستاذة وكينونة الصديقة الحميمة.. ليست أمينة الشخص ولا النموذج فقط، بل هي عصر بأكمله، تاريخ لم أشهد منه سوى لحظات، حتى وإن تجاوز عمر تلك اللحظات الثلاثين عامًا.
“كَتَبتُ ولم أكتب” – إبراهيم أصلان
فرض عنوان الكتاب نفسه عليَّ “أمينة رشيد أو العبور نحو الآخر”.. رحلة أمينة هي رحلة اجتياز دائم للأسوار، أسوار الذات والآخر، أسوار الثقافة والطبقة واللغة. كتبتُ عن اختيارها العربية في غالبية ما قدمَته من دراسات منذ الثمانينيات، ولم أكتب عن ذلك المحيط الذي كنت أسبح فيه سعيًا لجمع تلك الدراسات، ولا عن لهفتي عندما كنت أعثر على نص تائه لها، فكأنني عثرت على لؤلؤة مخفية، أفتح الصدفة وأَلملم شتات تلك الكتابات التي لم تهتم بجمعها. كتبتُ عن شغفها وإيمانها بالتدريس كتجربة إنسانية للإثراء المتبادل، قناعتها بأنه مهنة ورسالة تجعل التغيير ممكنًا. كتبتُ أن الأدب بالنسبة لها كان فضاءً للمعرفة والتفاعل الإنساني، طريقا لمتعة روحية في الاقتراب من الآخر، ولم أكتب عن سعيي الملهوف كي أقرأ عليها من مسودة كتابي فقرات في اتصالاتنا التليفونية اليومية. لم أكتب عن شوقي لسماع تعليقاتها كما كان حالي عندما كنت أنتظر ملحوظاتها على فصل أو بعض صفحات من رسالتي، ولم أكتب عن شغفي وأنا أقص عليها بعضًا مما نسِيَت عن نفسها، وكأني أصبحت أنا معلمتها.
كتبتُ كيف تألق وجهها منذ الثمانينيات كمثقفة ملتزمة تناضل فكريًّا وسياسيًّا بالتوازي مع نشاطها المكثف على المستوي العلمي، ولم أكتب عن حضرتها ووجها الصبوح وابتسامتها الخجولة وأنا أقص عليها أخبارها وأحدثها عن حكاياتها وأشيد بمواقفها، فتقول في حياء “لا أعتقد أنني أستحق كل ذلك.. لا أدري إن كنت قد حققت شيئًا له قيمة في الحياة”.. كتبتُ أن الأدب المقارن بالنسبة لها لم يكن مجرد تخصص في الدراسات الأدبية، بل مشروعًا وجوديًّا له أبعاد علمية وأخلاقية، ولم أكتب عن ذاكرتها التي كانت تتفتت يومًا بعد يوم كورقة رقيقة تتناثر أجزاؤها، أسعى محمومة إلى جمعها، فأمسك بيدي ما يذوب.. لم أكتب عن لقاءاتنا في دار ضيافة الجامعة ونحن نتناول الغداء معًا وتستمع مني إلى صفحات من مذكراتها، ولا عن جلستنا على الكنبة في بيتي بعد أن تلفحنا شمس الشتاء الدافئة في البلكونة الغربية، نحلم معًا بمشروعات بحث مشترك كانت لا تزال تُشعل حماسها قبل أن تنساها بعدها بدقائق. لم أكتب عن جلوسنا حول مائدة مطبخي عندما كانت تحكي ما تبقى من ذكرياتها تسجلها داليا السجيني.. وكأنني ألتقي معها في عالم مواز، ليس لحظة الماضي ولا الحاضر، بل بقعة في زمن ثالث، زمن أشبه بحلم تتباعد هي فيه، فتجتاحني تلك الكآبة أمام الهوة السحيقة التي تطوف فيها صور قديمة مقبضة.
ظل مشروع الكتاب حاضرًا في ذاكرتها التي كانت تخبو يومًا بعد يوم، وعندما سلمتُ مخطوطته للناشر، سارعت بطباعته في نسخة مجلدة وذهبت بها إليها قبل أن يجتاح النسيان معرفتها به. طبَعتُه بحروف كبيرة، فنظرها الذي كان ينطفئ تدريجيًّا لم يكن قادرًا على متابعة السطور. وظلت تمسك بالكتاب أيامًا وأيام، حتى أصبح هو الآخر ذكرى بعيدة.
- أمينة.. إنتي عارفه إني كتبت عنك كتاب بحكي فيه عن تاريخك وشغلك؟
- .. لأ.. طيب أنا ليا نسخة؟
- طبعًا يا أمينة.. النسخة عندك في البيت.
- فين؟
- …
سلام لكِ وعليكِ يا أمينة. هل قُدِّر لي أحيانًا طمأنة ذلك الجزع الذي كان يسكن قلبك ووعيك العميق بتداعي ذاكرتك. كانت هناك لحظات من الإشراق التي تفصحين فيها من وراء صمتك عن قدرة معجزة على الرؤية، قدرة وكأنها لم تُمس.. فهم لم يسلبه المرض قطرة من توهجه.. حتى وأنتِ على فراش المرض في تلك الغرفة الحزينة بالمستشفى، تكبلك الخراطيم وتمنعك من الكلام وتوثق يديك، ظلت نظرتك الحنون تشع حبًا وصبرًا.
سلام وصلاة لكِ وعليكِ يا أمينة.