لا أستطيع تذكر مشاعري آنذاك، وصعوبة تحديدها بدقة الآن تجعل محاولات الكتابة عن ما أحاطني من ألم تمامًا مثل محاولة الإمساك بالمياه. وذلك يعني أنني تعافيت. لكني كنت أرتعش كلما مرت فاطمة قنديل على ذكر أخوتها في كتابها “أقفاص فارغة”؛ أرتعش لأنني في نفس الوقت كنت أنزل إلى منطقة سيدي بشر كل أحد وأربعاء لزيارة طبيبتي النفسية كي نفكك تروماتي المتعلقة بالأخوة.
في بداية الجلسات العلاجية كنت أجلس ساهمة خرساء، وأنتظرها حتى تحكي نيابة عني. نصحتني الطبيبة أن أكتب مشاعري وأفكاري المتعلقة بهذه التروما بدلاً من التحدث عنها. أعطتني أوراقًا مُسطَّرة وأقلامًا، هدية محفزة على الكتابة حين علمت مني أنني أحب الأقلام. عدة أيام مرت وأنا أنظر إلى الورق والأقلام، غارقة في شعور الامتنان للهدية، بينما يطفح على جسدي شلل يحول بيني وبين الكتابة، أو تحديدًا بيني وبين أن أتعرى وأظهر كدماتي المعنوية أمام أحد. في نفس اليوم أغرتني علبة الشيكولاتة الزرقاء المرسومة فوق الطاولة على غلاف كتاب/رواية أقفاص فارغة. كان الغلاف مصيدة، وكنت فأرًا مندفعًا ينظر إلى التفاصيل ويهمش الصورة الكاملة، فدخلت المصيدة بفتحه وقراءته. ومع كل سطر أمرِّر أصابعي عليه كنت أحس بزلط ورمل في حلقي تحتك ببعضها، وكلما حاولت البكاء زاد الرمل والزلط وتكور في فمي تاركًا خطوطًا متعرجة على ضروسي التي كنت أجز عليها بديلاً للبكاء. المذاق المتخيل للرمل الخشن والبلوري في فمي ذكرني بكل المرات التي مررت بها على أرض خالية أو ما تسمى بخرابة، حينما يبنى فيها شيء جديد.
كانت قراءة الكتاب معايشة مُدبلرة للمأساة. أتوجع مما يخصني ومما يخص غيري. فيمتد الهم في المنطقة الرطبة والزنخة الواقعة بجانب قلبي، وما تحويه من كل الأشياء التي كبتها منذ سنين. تجبرني التجربة على تذكرها عبر ما مرت به فاطمة قنديل، أو ذكرها بنفسي للتعافي. ومع ذلك كان حدسي مصممًا على استكمال القراءة، ومصممًا على تنحية طبيبتي النفسية جانبًا لفترة، أسمع صوتًا بداخلي يقول: أنتي محتاجة تقعدي مع نفسك الأول. عبر توجيهاته قسمت المأساة/القراءة على أيام كبروتوكول دوائي، أفتح الجرح يوميًّا لتنظيفه بعد أن تكونت طبقة ساذجة من الدم المتجلط، يكفيها المرور على كتاب مثل هذا حتى ينفتح الجرح مرة أخرى ويفرز سوائل بألوان غريبة تشبه أيامًا عشتها جعلتني أتساءل: لماذا أنا هنا؟
في منتصف رحلة التنظيف أدركت أنني كونت علاقة صداقة خيالية مع فاطمة قنديل، ليس لأنني مررت بأشياء تشبه ما مرت به فقط، بل لأنني أشترك مع الآخرين في أشياء كثيرة، مثل البلد والخلفية الثقافية والبرج الفلكي، وتجمعنا هموم مشتركة، بل لأن صداقاتي فاشلة، أقول هذا لأنني لا أعرف كيفية تكوين علاقة صداقة، أو اختيار صديقة أو صديق. لديَّ أصدقاء، وعددهم مهول، لكن هم من اختاروني وقرروا ضمي لمملكتهم الاجتماعية. ولأني أشعر بالبؤس أحيانًا حيال مهاراتي الاجتماعية، فأنا لا أقاوم أن يضمني أحدهم إلى قائمة اصدقائه الواقعيين، لا أقاوم شعور أحدهم تجاهي بأني صديقته المقربة، أو كنت صديقته المقربة. أقبل أن تتلبسني روح فأر داخل متاهة من المواسير الاجتماعية يمر على أشياء لا تخصه لكنها تلتصق به بإسم الصداقة. لكن هذه كانت أول مرة اختار صداقة أحدهم حتى ولو بشكل مُتخيل. ويبدو أنني تمسكت بهذا الاختيار لأن ما جمعني مع فاطمة قنديل فضاء بعيد عن الصراعات وخصام الأصدقاء، وهو فعل مقاومة من نوع خاص.
هذه الصداقة، بشكلها الجديد، مكَّنتني من عمل كولاج، عبر اختيار الصفحات التي كانت تصف وتشير إلى الخزي، والضياع النفسي وشعور القهر، والأهم هو شعور الخذلان المتكرر الذي كان يخنقها من أخوتها. فنقلتهم على الورق الذي أعطته لي الطبيبة. أعطيت لنفسي هذا الحق لأنني اعتبرت هذا الكتاب وعدًا أو وثيقة تؤكد إمكانية خروجي من هذه الظلمات. ولأنني أدركت أن فاطمة صديقتي فعلت ما أود فعله أو ما علي فعله. فهمت هذه النقطة حينما مرت فاطمة على ذكر علاقتها بأمها قفشت نفسي أقول “كأني أنا إللي أمي لطيفة كدا”.
كيف يمكن إذن لشخص في مكان بعيد يبكي ويكتب ويتعافى ويتحقق وينتكس نيابة عنا في الأوقات التي لا نستطيع فعل ذلك ولا نعتبره صديقًا؟
في الجلسة قرأت على الطبيبة ما كتبت، فمدحت كتابتي، لكني أخبرتها أنها ليست كتابتي بل كتابة صديقة تدعى فاطمة قنديل. كَتبت ما أود قوله وحكيه ووفرت عليَّ الكثير من الحرج. أخبرتني الطبيبة أن البوح ليس فيه حرج. وأكدت على انتظارها لكتابتي الخاصة عن ما مررت به وعن مشاعري، وأنها تعتقد أن الأمر أصبح سهلاً الأن بفضل صديقتي، وقبل أن أغلق الباب سألتني إن كنت قد شكرت هذه الصديقة على فعلها النبيل؟ وإن كنت قد بكيت اليوم؟ أخبرتها أنه “لسه معيطتش”. لكنني سأكتب لصديقتي فاطمة رسالة. لويت أصابعي كحركة على عدم الالتزام بالوعد مثلما في الأفلام الأمريكية، وقلت بداخلي إنني سأكتب عن الكتاب. لكنني خلال عام كامل لم أكتب سوى ملاحظات وأسئلة طارت حينما طلبت فاطمة قنديل احتضاني قبل ندوتها بالإسكندرية، فقبلت خدها بارتباك بدلاً من ذلك.
حسدت كل الذين استطاعوا نقد الكتاب، أو كتابة ريڤيو عنه أو عمل حوار صحفي مع فاطمة قنديل. كان كلما مر علي حوار أو مقال يترجم في دماغي ليس على أنه حوار أو مقال إنما قدرة هؤلاء البشر على النوم بشكل عادي بعد قراءة هذا الكتاب، بينما كنت أسهر مبحلقة في سطور بعينها غير قادرة على رؤية شيء سوى ما كتبته فاطمة بشكل بسيط، والشعور بالحزن. لكن ربما هكذا هي الصداقة التي أختبرها للمرة الأولى، تكون دون أحكام أو نقد، ننصت لبعضنا بعضًا بينما نغلق خيالنا حيال ما نسمعه ونفكر في حلول، نبكي معًا بينما يمسك كل منا بمرآة ليجبر الآخر على رؤية نفسه الحقيقية، وفي نفس الوقت نمد يدينا كلما غرق أحدنا في أماكنه المظلمة.
في الندوة قالت فاطمة قنديل إنها اعتبرت آني أرنو صديقتها البعيدة، حينها فقط شعرت أنني يمكن أن أحتفظ بعلاقة الصداقة الخيالية التي بيني وبين فاطمة. رغم ذلك جلست صامتة على الدكة الخشبية خارج القاعة بعد انتهاء الندوة، وحينما خرجت فاطمة وجلست على نفس الدكة بجانبي كنت صامتة، دخنا بهدوء لبضع ثواني قبل أن يأتي فوج عظيم ليطلب صورًا وتوقيعات منها. شعرت أنها نهاية لطيفة لهذه التجربة ولحظة مناسبة للبكاء أخيرًا! لأنني أنهيت علاجي من مدة طويلة، وها هي فاطمة قنديل بجانبي تبتسم لي، لكنني وجدت وجهي يرسم ابتسامة، وبدلاً من ذرف الدموع تابعت عيني القراء المحتفين بها. تخيلت أنني سأمشي وسُأصرف نفسي في الشارع، لكن أتت فتاة وقطعت علي المشهد النهائي، كانت ممسكة بنوت بوك يشبه علبة الشيكولاتة/المصيدة المرسومة على غلاف الكتاب. الفتاة ترتعش ولا تستطيع إكمال جملة واحدة أمام فاطمة. لكنها أخبرتها بتأثرها الشديد من الكتاب، ثم بكت أمامنا. بكت كل البكاء الذي لم أستطع أن أبكيه أمام صديقتي المتخيلة التي أراها واقعًا، وأمام طبيبتي وأمام نفسي. بكت نيابة عني في كل المراحل. فكرت أنها أيضا تعرضت لخذلان من أخوتها. ووجدت نفسي أمد يدي وأطبطب عليها، كما لو كنت أطبطب على نفسي طبطبة متأخرة!