حين أرى أنني أصبحت منشأ أثريًّا، ووجودي لم يكن عبثًا، أشعر أن الحياة بها ما يستحق العيش من أجله!
ربما كانت الكتابة هي القشة التي تعلقت بها فروغ في عالمها، والأثر الذي أصبحت تحارب من أجل أن تتركه، تلك الشاعرة التي كتبت على صفحات الزمان أنَّ للنساء أقلامًا، وأنهن شاعرات، حتى وإن حاول الكثيرون تجاهل موهبتهن، واستطاعت أن يكون اسمها من أهم الأدباء في الأدب الفارسي الحديث.
عندما ننظر في حياة فروغ فرخزاد سنجد أنها تعبر عن كل الفتيات اللواتي لا يستطعن البوح بما يردن فلجأن للكتابة، وكم من فتاة حاولت التمسك بقشة الكتابة نجاةً من الغرق، ولذلك تمسكت فروغ بالكتابة وقاومت بها الفترة العصيبة التي كانت فيها في مشفى للأمراض العقلية، واستطاعت بكتابتها وخيالاتها تجاوز تلك الأيام التي عاشتها وحيدة وبعيدة عن كل شيء؛ حتى عن طفلها الصغير.
لم تتحمل فروغ بشاعة ما حولها، وتقول إن روحها تشبه طائرًا حرًا يرفرف ويريد الضوء، وما أصعب أن ترى الضوء! لأنك عندما تفتح عينيك ترى البشاعة، فتساءلت، أين يمكنني الهروب؟ وأظن أنها وجدت مكان الهروب عندما بدأت في تدوين أشعارها، ويبدو أن ذلك لم يكن سهلاً بالمرة، خصوصًا في وقت كانت فيه المرأة شديدة التحفظ في المجتمع الإيراني، وقد واجهت فروغ عائلتها التي رفضت موهبتها على الرغم من محاولاتها في كسب عاطفتهم وفي إحدى رسائلها إليهم نجد ذلك واضحًا، بعكس ما تتصورون فأنا امرأة تحب التجوال في الشوارع، بل أنا ذاتي، امرأة تحب الجلوس إلى الطاولة وتقرأ وتكتب الشعر وتفكر، لو كنتم تسمحون لي وتعدون بعدم الاستياء مني لقلت أشياء كثيرة أخرى أما إن كنتم ستستاؤون مني فالأفضل أن تبقى شفاهي مطبقة كما كانت العادة دومًا، و يكفي أن تعرفوا أنني أحبكم مثل بقية أولادكم ولا أريد أن أقوم بما يزعجكم.
في سنة 1935م، تحت سماء طهران، ولدت الشاعرة والمخرجة فروغ فرخزاد في عائلة عسكرية شديدة الانضباط، وكان لها سبعة أشقاء، أحدهم المغني والشاعر والناشط السياسي فريدون فرخزاد؛ التي كانت تحبه فروغ وتؤمن بموهبته الشعرية، تزوجت فروغ في سن مبكر من رسام الكاريكاتير الساخر برويز شابور لكنه زواج لم يدوم طويلاً، وأنجبت منه ولدها الوحيد كاميرا، أو كامي مثلما كانت تحب مناداته. لاحقًا أُخِذ منها ولدها بسبب اتهامات وُجهت إليها بأنها امرأة متعددة العلاقات، وهي التهمة التي كانت تعاني منها فروغ طول حياتها، وما حاولت توضح أنها بريئة منه.
وانتقلت فروغ بعدها إلى أوروبا، وهناك قابلت الكاتب وصانع الأفلام إبراهيم جولستان (1922-….)، وقد دعم فروغ كثيرًا، وتعلق بها وتعلقت به، ومن هناك سافرت إلى تبريز، وأنتجت فيلمها الأول عام (الموت الأسود) 1962م، التي كانت تنقل فيه حياة المصابين بالجذام في إيران.. وحينها تعلقت فروغ بالطفل حسين منصوري الذي كان طفل لوالدين مصابين بالجذام، وقررت فروغ أن تتبناه وتأخذه معها، وفي عامها الثاني والثلاثين غادرت فروغ هذا العالم؛ في حادثة سير غامضة سنة 13 فبراير 1967م، في الوقت التي كانت بصدد أن تكتب ديوانها الأخير (لنؤمن بطليعة الموسم البارد) الذي ذكرت فيه أنها تشعر بالرحيل قد اقترب ونشر بعد وفاتها.
أنت لا تعرف كم أحب أن أتصرف عكس العادات والسنن!
لا بد أن ما قيل عن فروغ من التمرد هو أصدق ما يكون، فهي الروح التي أرادت أن تكسر التماثيل الموجودة في الواقع، وفي الفكر أيضًا لكنها دائمًا ما كانت تبوح بأن القيود تلتف على قدميها وتحرق روحها وكأنها سجينة بين جدران القوانين، أو ربما في الفكر الذي بلا معنى، ومن هنا جاءت بكتابة النصوص التي تحمل النقد والتحرر، وعلى الرغم من أنها امرأة متمردة وصلبة وروحها مليئة بالعصيان لكنها لم تستطيع كتمان شعورها بأنها تريد حبيبها بجانبها، ولذلك تعد رسائلها إلى زوجها من أجمل الرسائل، حتى أنها كانت تصف له شوقها فتقول له الأغصان ترتجف من الشوق. وفي إحدى رسائلها إليه “برويز قُل يا رب أوصِل فروغ إليَّ وأوصلني إلى فروغ“. وفي رسالة أخرى تهمس فيها “نظرة واحدة منك، لمسة يدك، قبلة واحدة منك، تكفيني لأستغني عن كل شيء“.
إن الكلمات وإنْ كانت أدوات الشاعر ليست مهمة بقدر المحتوى
أتكئُ على فكر فروغ كثيرًا كمثقفة واعية وممثلة قامت ونفَّذت أفلامًا مهمة، عندما أرى الكثير من الشعراء الآن يتشاكلون حول كتابة الشعر الحديث والقديم منه، وأتعجب لماذا يعدون الشعر الحديث هو فقط التجديد في الشكل أو استخدام مرادفات غريبة؟! تحدثت فروغ عن هذا الأمر في العديد من اللقاءات وحينها قالت إن الكلمات، حتى وإن كانت من أدوات الشاعر، فهي ليست مهمة بالطبع بقدر المحتوى، ماذا يعنيني إن كان شكل القصيدة مهذبًا وكلماتها حديثة على حسب ما يقولون وهي بلا معنى ولا محتوى شعري له قيمة!
كانت فروغ دائمًا ما تؤكد على أن الشاعر الجيد هو الذي يعيش عناء فترته وما يحدث فيها، أي أن استدعاء المشاعر والأفكار يجعل الشاعر أو الكاتب بوجه عام غير صادق في نظر فروغ، على الأغلب، فالشاعر الحقيقي هو الذي يعاني ما يعانيه مجتمعه وجيله ولا بد من أن يلتصق به!
إبليس الشعر سحبها من يدها، وجعل الشعر عُشًّا للطيور في يديها ذلك السحر والمس الذي يجعلك تموه فيه دون أي مقابل سوى التلذذ بقصيدتك وولادتها، فروغ كانت تعلم وتؤكد في واحدة من رسائلها إن الشعر والفن لم يجلبا لي السعادة، كما لم يجلباها لغيري، لكن هناك شيء يجتذبني اجتذابًا غريبًا إليه، أريد أن أكون الشعر والفن، برغبتها تركت نفسها للشعر لتلد منه خمسة دواوين؛ أولها (الأسيرة) الذي أرى أنه يشبهها تمامًا ربما في مرحلة البدايات، ومن ثَم تحدثت تلك الأسيرة عن (الجدار) وهو اسم مجموعتها الثانية، لكن على الأحرى أن تلك الأسيرة هدمت الجدار وتحول الأسر إلى (عصيان) وهو اسم مجموعتها الثالثة، نجد فيه روحًا متمردة بشكل واضح، وأرى أن نضوج تجربة فروغ كان في تلك المجموعة حتى إنها أصبحت تقول كل ما تريد تقريبًا. والغريب أنها تمردت على العبودية ذاتها بمعاتبتها للإله؛ ويتضح ذلك بشكل واضح في قصيدتها: تمرد العبودية، وبعد التحرر كتبت (ولادة أخرى) ومن ثَم تكون المجموعة الرابعة لها التي تستطيع أن تجد فيها ثوبًا جديدًا هادئًا أكثر وأقل محاربةً وتمردًا، وكأنها أثبتت نفسها كالسفينة التي تحارب الأمواج العالية وأيقنت أنها تستطيع، وبعد وفاتها إثر الحادث في سن صغيرة نُشرت مجموعتها الأجمل والأصفى (لنؤمن بطليعة الموسم البارد).
تذكري التحليق/الطائر سيموت!
لا أعلم لماذا يوجد دائمًا حظ ومكان للكتاب والفنانين في غرف مستشفى المعالجة النفسية؛ أتذكر فيرجينيا وولف كثيرًا كلما أردت أن أتحدث عن مرض فروغ؛ مرضها الذي حرمها من تربية طفلها الوحيد فرقدت في المستشفى بعد انفصالها عن زوجها لفترة كبيرة، ولذلك أخذوا منها طفلها، وإذا أردت أن تراه في عينيها فعليك بقراءة القصيدتين (قصيدة لك) و(شبح الليل) التي كانت تهمس بهما في أذن ولدها، وعلى الرغم من معاداة الأهل لها ولكتابتها إلا أنها كانت تحمل لأختها مشاعر فياضة وتقول: إنها تتكئُ عليها وإنها الوحيدة التي تحافظ عليَّ، بوران، من بين جميع أفراد أسرتي، هي الوحيدة التي تحافظ عليَّ، وهي الوحيدة التي تعرف مسؤوليتها، وهنا أيضًا أتذكر فرجينيا التي كانت تجلس في غرفتها وحيدة بالأيام حتى تسمعَ صوت أختها فتجري نحو الباب كي تحتضنها، وتقول إنها اليد التي تصفِّق عند كل انهزام وانتصار، كم يحتاج المرء والكاتب إلى أن يدعمه أحد الأقربين ويثق فيما يفعل، يتشابهان في الألم، وفي احتياجهما إلى المحبة، وإلى تفهم المجتمع أن المرض النفسي أو الاضطراب ليس عارًا أو نقصًا، بل إن الحدائق تحتاج من يرعاها مثلما قالت فروغ ذلك في قصيدتها قلبي يحترق على الحديقة:
لا أحد يصدق أن الحديقة تحتضر..
وقلبها –تحت أشعة الشمس– متورم..
وذهنها– بهدوء بدأ يفرغ من الذكريات الخضراء.
رحلت فروغ عن عالمنا وكأنها كانت تعلم أن الموت سيأتي مبكرًا، لكنها توجد داخل كل فتاة مسَّها مس الشعر والكتابة، وأرادت أن تلوِّح بيديها للعالم قائلة (أنا هنا). أوصت فروغ تلك الفتاة بألا تنسى التحليق تذكري التحليق/الطائر سيموت!