في مساء بارد من سنة 1990 وفي أثناء افتتاح معرض لي؛ يضم محصلة نتاج إقامتي الفنية في مدينة بازل بسويسرا، سمعت صوتًا رخيمًا خلفي ينادي بلطف ”أستاذ يوسف ليمود!”، التفتت فإذا برجل خمسيني قصير، أنيق الملبس، في معطف مطر طويل وكوفية فخمة من الصوف بارزة حول رقبته وبيريه على رأسه المستطيل، يمد يده الصغيرة لي، كواحد من أهل المدينة، بمودة وترحيب قائلاً “جميل عطية إبراهيم، صحفي من مصر..”. في ظهر اليوم التالي كنت في بيته أتناول معه الغداء، حيث يعيش مع زوجته في بازل ويعمل في جنيف، مقسِّما أيام الأسبوع بين المدينتين. بعد الغداء فتح عدة الشغل التي كانت جهاز تسجيل صغير وشريط كاسيت وسألني ما شاء وما لم أعد أتذكره من أسئلة. أخذتني الدنيا بعد هذا اللقاء بأحداثها الغريبة سنواتٍ طويلة، أنستني ذلك الرجل الرقيق المتواضع والمعتز بكيانه، إلى أن رأيته ذات يوم في المدينة نفسها عصرًا، فاقتربت منه وسلمت عليه فدعاني إلى فنجان قهوة على مقهى ”الملاك الأحمر” المجاور، الذي كان يرتاده المثقفون وأهل الفن وقتها، وطلب لنفسه شاي ”إيرل جراي”، فهمت فيما بعد أنه شايه المفضل الذي يتناوله كما لو كان يقوم بطقس روحي. توطدت علاقتنا منذ ذلك اللقاء الذي كان، أغلب الظن، في السنة الثالثة من الألفية الثانية. ومن لقاءاتنا فيما بعد، التي تنقلت في عدة مقاهٍ، والتي كانت، في فترات ما متفرقة، شبه يومية؛ عرفت من حكاياته التي لا تنتهي، ما فاتني من معرفة بعالم الثقافة في بلدي التي، لتمردي المراهق أو لغبائي، حتى وقت رحيلي واغترابي، كنت متعاليًا عليها وأراها رجعية في كل مجالاتها، قياسًا بكل ما هو غربي. حكى لي كثيرًا عن علاقته بيحيى حقي، وكيف أخذ بيده بأبوة وكرم إلى عالم الأدب. وعن جلوسه في ندوات نجيب محفوظ صامتًا لا ينبس بكلمة في حضرته. وكيف غمرته السعادة يوم أن ناداه محفوظ ذات مرة ”جميل!” وانتحى به جانبا وقال مبديًا إعجابه بروايته ”النزول إلى البحر” التي تدور أحداثها بين أحد المستشفيات والمقابر التي يسكنها الأحياء من الفقراء والمهمشين ”أنت ازاي قدرت تخلي الأحداث كلها بين مستشفى ومقابر من غير ما تحسس القارئ بالملل!”. كانت هذه شهادة عزيزة عليه لم يمل من حكيها. وعن تجواله مع حسن سليمان في شوارع القاهرة وأحيائها القديمة، وحبه له وللوحاته، لدرجة أن شخصية الرسام في روايته ”مسألة همجية” مستوحاة مباشرة منه، وكيف أنه حصل منه ذات يوم على سكتش سريع، طبيعة صامتة، ممهور بإمضائه، كان معلقًا دومًا في أحد الأركان، لا يتبدل بصورة أو لوحة أخرى. ومنه عرفت الأجواء التي عاشها جيل الستينيات، وعن مجلة ”جاليري 68” التي كان أحد مؤسسيها، وتعرفت على أسماء أدبية عديدة قرأت أعمالهم جميعًا وأحببت بعضهم كثيرًا، كإبراهيم أصلان وعلاء الديب اللذين كانا، مع إبراهيم منصور، من أكثر من جرى لسانه بذكرهم، قبل وبعد فقدانه الحزين للذاكرة.
والتقيته أكثر من مرة في القاهرة، كان مقهى ”زهرة البستان” بيته الثاني، يتحلق حوله الأصدقاء والمحبون فينفخ دخان اغترابه في عشرات من أحجار الشيشة
لساعات طويلة منتشيًا، وكأنه يمتص من نسغ تلك اللحظات الحميمة في بلده في شهر واحد ما يمكّنه من احتمال صقيع الغربة عامًا. وكنت أتعجب لذلك التناقض الواضح بين هشاشة جسده الضئيل وقوة رئتيه واحتمالهما هذا الشره في التدخين، ما بين الشيشة والسيجارة، ناهيك بقوة صوته الرجولي ورخامته. أعادني هذا إلى علاقته بمدينة جنيف التي كانت أساسًا، إلى جانب تفاعله مع الوجوه العربية الوافدة في مهام دبلوماسية، في مبنى الأمم المتحدة، حيث عمله كمراسل صحفي، أو في غيره من المنظمات، أقول كانت أساسًا علاقةً بالمقهى المصري الوحيد فيها، حيث تحمله الشيشة، بالرغم من عدم كونها من المعسل، إلى منطقة ذهنية قريبة من روحه ومزاجه، خصوصا أن طبيعة الأصوات المحيطة والموسيقى الممتزجة فيها، هي قطعة من لحم مصر اقتُطعت وعُلّقت في هواء غريب. وكان كرمه مع نفر من المحيطين به، من سيئي الحظ في الحياة، هنا، لا يقل عن كرمه مع مجالسيه في زهرة البستان واعتبارهم جميعًا ضيوفه. على بعد خطوات من ذلك المقهى كان الاستوديو الذي يقيم ويعمل فيه ثلاثة أيام في الأسبوع، أو حسب ظروف العمل، وكان يدفع فيه الإيجار الزهيد نفسه الذي استأجره به منذ أربعين عاما تقريبا. وعندما أخبرني، قبل عشر سنوات، أنه سوف يتركه لتقاعده عن العمل، طلبت منه بجدية أن يتنازل لي عنه عند المالك، فحكى لي بأسف أنه ملتزم بوعد كان قد وعده لصديق يمني منذ ثلاثين عامًا، أن يتنازل له عنه حين يتركه، وأن ابن صديقه في حاجة إليه الآن، وأنه لا يستطيع إلا أن يفي بوعده. هكذا كان يجد نفسه في جنيف ويحبها أكثر من بازل التي لم يكن له فيها، تقريبًا، سواي. كانت جنيف هي شيشته التي تكركر في مائها كل اللهجات العربية بكل هموم وخيبات الوطن العربي، الثقيلة والمضحكة. كانت ”خزانة الكلام” التي تنهل منها شخوص رواياته وقصصه. في جنيف كان، وهو الحكاء، في قلب الحكاية. تخرج “يا ولاد القحبة!”، بالقاف، من فمه، ضحكًا أو استهجانًا، عذبة بريئة من أدنى حس بسوء اللفظ أو سوقيته. ترك جنيف إلا من زيارات خاطفة متباعدة أدرك من خلالها أن المدينة نسيته ولم يعد له فيها ما كان طوال أربعة عقود. تزامن هذا مع بدايات اضطراب ذاكرته الذي تفاقم سريعًا في السنوات الثلاث أو الأربع الأخيرة، حتى استسلم للنسيان.
في بازل، كثيرًا ما كان يتصل بي هاتفيًّا قبل الظهر ”أيوه يا زعيم” داعيًا إياي للغداء معه، أذهب بدراجتي لأجد في انتظاري نفس الأكل الذي لا يتغير أبدا: الدجاجة المطهوة في الفرن داخل إناء تابوتي من الفخار الروماني، حيث تفقد كل دهونها (بالإمكان أكلها كلها دون الإحساس بأي ثقل)، وخليط من الخضار المطبوخ بالطريقة المصرية (توللي)، والرز والسلاطة، والآيس كريم مع القهوة بعد هذا. وكان لا يفوّت أيا من المناسبات الدينية، مسيحية أو إسلامية، إلا ويدعوني، وأضحك حين يقدم لي اللحم الضاني في عيد الأضحى وفي مولد النبي وأقول له “أنت أسلمت ولّا إيه يا عم جميل؟” فيبتسم ويقول ”أيوه”. ومثلما كان بيته مفتوحا للأصدقاء المقربين، كان قلبه مفتوحًا لكل وافد إلى سويسرا من معارفه من دوائر الفن والأدب والسياسة من أرجاء الوطن العربي كله، فمعه قابلت وتعرفت على أسماء كثيرة، منها، على ما يحضرني عفوًا، الروائية رضوى عاشور، وعازف الكمان الأسطورة عبده داغر، والمخرج محمد فاضل، والسيناريست ابو العلا السلاموني، اللذين حوّلا روايته الثلاثية 1952” و”أوراق 1954” و”1981 إلى مسلسل تليفزيوني بعنوان ”سنوات الحب والملح”، وجاءا ليحددا أماكن تصوير اللقطات الخارجية، التي مسرحها مدينة جنيف؛ والشعراء، محمد عيد ابراهيم ومريد البرغوثي وحلمي سالم، وذلك الرجل الجميل، المفكر، غير المعروف، والذي نسيت اسمه، وقد جاء من صعيد مصر إلى ألمانيا قبل خمسين عامًا لدراسة الطب فتحول إلى الفلسفة وانقطعت علاقته بمصر مذ ذاك، ويعيش حياة زاهدة في كل شيء إلا في الفكر، بلا راديو ولا تليفزيون ولا تليفون، فقط مؤخرًا بدأ يستعمل الكمبيوتر كآلة كاتبة، ووسيلة التواصل الوحيدة معه هي البريد الورقي، ورغم ذلك يعرف أخبار العالم ”من الهواء”؛ وأسماء كثيرين، لا مجال لتذكرها كلها أو لذكرها هنا، ممن تأتي بهم المهرجانات الفنية والندوات، يستقبلهم جميعًا ضيوفًا عليه. كان خلف اتساع دوائر معارفه شغف بكل الفنون، فقد درس في معهد الموسيقى العربية بالتوازي مع دراسته الجامعية في كليه التجارة، وتعلم العزف على الكمان، وإن كان قد توارى اهتمامه بالعزف بعد تخرجه، إلا أنه لم ينس قراءة النوتة الموسيقية، وكان تأثير دراسته للموسيقى واضحًا في أسلوبه الخاص في بناء الجملة وتكرارها الإيقاعي في كتاباته الأدبية. كما كان للمغرب العربي وأهله مكانة خاصة في نفسه، إذ إنه قضى زمنًا كمدرس في إحدى المدارس بمدينة أصيلا، وهناك تبلورت روايته التي تحمل نفس اسم المدينة، والتي صور فيها، بأقل الخطوط وأبسط اللمسات، وطنًا كاملاً ينتظر مستقبلاً غائمًا. وهناك أيضًا التقى برفيقة دربه، روت، التي كانت في زيارة سياحية، لتشاركه رحلة حياة طويلة وتكون بجانبه، مثالاً للطيبة والوفاء النادرين، حتى النهاية، تأتي لتراه يوميًّا وتقضي معه الساعات، في بيت المسنين الذي أمضى فيه سنتيه الأخيرتين، تأخذه في جولة بالكرسي المتحرك في الحدائق المحيطة بالمبنى، وتتصفح له الكتب الملونة، وتغير، على حائط غرفته، اللوحات التي اقتناها من فنانين مصريين أصدقائه، وتشعل له السيجارة الوحيدة التي تسمح له بها في اليوم، إلى آخره مما يخفف من ملل الوقت في مثل ذلك المكان.
كنت حريصًا على زيارته في بيت المسنين كلما أتيحت لي الفرصة، وغالبًا كانت في أيام الآحاد، وعلى الرغم من استغراقه الكامل في متاهة الزهايمر، بتداخل أحداثها وأزمنتها وشخوصها، إلا أنه كان يتعرف عليَّ فورًا، وإن كان ينسى اسمي أحيانًا، خصوصًا في الزيارات الأخيرة، فيتدارك ذلك بفتح ذراعيه بدهشة ”إنت فين يا غزال”، وينتعش لرؤيتي ويسألني عن حال أصدقاء له رحلوا منذ سنوات بعيدة، أو يحكي أن أحدهم مر عليه بالأمس في هذا “الفندق” الذي ينتظر فيه إلى أن يعود إلى القاهرة، أو يطلب مني أن نذهب معًا إلى زهرة البستان… ولم تكن تمر زيارة دون ذكر ”نجيب بيه”، يقصد نجيب محفوظ، الذي، بالنسبة إليه، مثل كل الآخرين، لا يزال حيًّا. أذكر يوم أن رحل محفوظ اتصل بي تليفونيًّا في الصباح وهو يبكي كطفل “عم نجيب مات..”. وكان يسألني عن مقهى ”ريش” وصاحبه وإلام صار المكان. ولم يفقد، في وهنه الشديد ونحول ذاكرته، حد امّحاء الربط الزمني أو المنطقي بين الحوادث، لم يفقد حس الدعابة وخفة الروح ودموع الطيبة التي تمتزج بالضحك. كل هذا مسح أخيرًا عن نفسي أثر تلك الغصة التي أبعدتني عنه قليلاً في خضم أحداث الثورة المصرية، بسبب دعمه الدكتاتور الصغير منذ ظهر في الصورة إلى أن انقض على عنق هذا البلد التعيس، وبعد ذلك لرأيه الصادم في التنازل عن تيران وصنافير ”يا أخي دول جزيرتين مالهومش أي لازمة!”. أبعدني الإحباط والغضب عنه فترة من الزمن، ولكني مع الوقت ومع رؤية أن جل أبناء جيله كان لهم الموقف نفسه تقريبًا، بدأت أدرك أنها مسألة تركيبة جيل كامل جديرة بالبحث النفسي، ولكن أهم من هذا أدركت أن ذاكرته كانت في تدهور، وأن حالة الضعف العام هي ما يتحكم في كل ما يقول ويفعل. الآن وقد علمت من زوجته خبر رحيله قبل أيام قليلة، ومع أني كنت أتوقع الخبر في كل يوم طوال الأشهر الماضية، رأيت في لحظة كل التفاصيل التي عشتها معه دفعة واحدة، وطاف بذهني بعض عناوين كتبه التي تحمل شيئًا من روحه. تذكرت حفيف الهواء والضوء في “أوراق سكندرية”، وعذوبة الجو في “البحر ليس بملآن”، والبساطة في “أصيلا”، والغضب من الممارسات الصهيونية ضد الفلسطينيين في ”مسألة همجية”، والخيال السوريالي في “شهرزاد على بحيرة جنيف”. جاءوا ليوقظوه كالعادة في الصباح، فوجدوه في سكينة النوم الأبدي. وستقام مراسيم دفنه هذا الأربعاء، الخامس عشر من الجاري، وبسبب حالة العزل الصحي التي يعيشها العالم الآن، لن يُسمح إلا لشخصين فقط أن يحضرا الدفن، زوجته، وأغلب الظن، أخوها؛ هنا، على ربوة تطل بمقابرها على قرية ألشفيل بمدينة بازل، ليس بعيدًا عن البيت الذي عاش فيه أربعين سنة. صوته الرخيم ولطفه وطيبته النادرة ونبله، باقون في ذاكرتي مثلما في ذاكرة كل من عرفوه.