“الرجل الذي كان يقرأ الجرايد”، عنوان وضعه الأستاذ حسام علوان لصورة نشرها على حسابه في فيسبوك، صورة تنتمي إلى مجموعة مقتنياته من الصور والأوراق والكتب أو أجزاء الكتب، القديمة، تلك الأشياء التي نشعر حين نراها بنغزة الحنين ونود لو نلمسها، أشياء لو لم تقع في يد من يقدر قيمتها فربما يُعاد تدويرها أو استخدامها كوقود لتدفئة الأيام الباردة. خطابات مكتوبة بخط اليد على ورق اصفر لونه، أو ربما كان لونه في الأصل كلون أشعة الشمس المنكسرة في الأصيل وعتَّقه القِدم، تحوي رسائل حب أفلاطوني، مودة بين زوجين، ميزانيات بعملات نراها صغيرة صارت من التاريخ أو بأرقام آحاد من عملة أكبر قاربت بدورها أن تكون صغيرة، مطالبات وخلافات بلغة لم تعرف بعد الفُجر في الخصومة، يوميات خلدت حيوات أصحابها بعد رحيلهم، صورًا نصِفها استسهالاً “أبيض واسود” لأننا لا نعرف كيف نسمي ألف درجة من الرمادي، لون الاحتمالات واللا اليقين، ومنها كانت هذه الصورة.
يصف عنوان الصورة ببساطة ما يفعله مُضيُّ الزمن وكيف يتحدى التقاط صورة ذلك المُضيّ، مُضيّ البُعد غير الملموس، الذي لا يتوقف لأحد ولا “على أحد” في مضاءٍ كحد السيف، استخدام الفعل الماضي مع المضارع، فيما يمكن أن نطلق عليه تجاوزًا “الماضي المستمر” في ترجمة حرفية لأحد أزمنة الفعل في اللغة الإنجليزية والذي لا يقابله زمن مثله في اللغة العربية، واصفًا لحظة جمدتها الصورة لنراها. هذا الرجل “كان”، وهو على الأرجح غير موجود في عالمنا الآن، ولكنه أمامنا “ما زال” يقرأ الجريدة، كما يجمع العنوان ببلاغة بين عربية فصحى ملائمة لزمن الصورة وكلمة عامية لائقة بمحتوى الصورة، لتحل الياء المخففة في “جرايد” محل همزة على نبرة، تكسر انسيابية الكلمة وتحد من حميميتها بخروج تلك الهمزة من الحلق، ليقترب العنوان أكثر من هذا الرجل الجالس على كرسي أسيوطي باسترخاء مرتديًا ملابس البيت المريحة، إلى جواره عدة كتب. صورة التقطت له على غفلة، أو صورة مرتبة على طريقة “صورني وأنا مش واخد بالي”. من خلفه ممر قصير ينتهي بباب ذي مصراعين، فُتح أحدهما وأُغلق آخر، تعلوه شُرَّاعة زجاجية، لا وظيفة لها إلا أن تشي بالنور إذا كان مضاء بالغرفة، علامة على أنها مشغولة إذا كان بابها مغلقًا، على غرار أبواب المنازل القديمة، ربما لاحترام خصوصية من في الغرفة، أو على العكس، لكشف وجوده بها، حسب رؤية الناظر على الجانب الآخر من الباب. الإضاءة نهارية، لكن الممر القصير معتم نوعًا ما، وفي آخره يسطع ضوء مقتحم من نافذة الغرفة المفتوحة. لوهلة، ذكرني ذلك الضوء في آخر الصورة بالضوء الذي يراه الموشك على الرحيل، في آخر النفق.
خطر لي، من باب الحذلقة وشيء من التأمل، عناوين مختلفة قليلاً، مثل: “رجل كان يقرأ جريدة”، بتنكير الرجل بسبب مجهولية اسمه، وإفراد الجريدة، فلا أرى في الصورة سوى واحدة، وهو عنوان، كالعنوان الأصلي، يعترف بمرور الزمن . ثم تذكرت قصيدة درويش، “مقهى، وأنت مع الجريدة”، ومثله “الرجل والجريدة”، ممَّا يوحي بإخراج الزمن من المعادلة، والاكتراث فقط للحظة الآنيَّة، وإعطاء كل الوزن للمعيَّة. وأيضًا: “قارئ الجريدة”، على سبيل تخصيص الرجل للجريدة وإضافة الجريدة إلى الرجل، قبل أن توضع جانبًا، مثل زملائها من المواد المقروءة، على المنضدة الصغيرة المجاورة.
خطر لي أيضًا، أن الرجل ليس محور الصورة، أن الجريدة تشاركه البطولة. على الرغم من إعلاء قيمة الإنسان باعتباره الكائن الأرقى، الفاعل، من كتب وأصدر وقرأ، ومن تدور حوله الأخبار، تستحق الجريدة هنا أن تحظى ببعض الاهتمام. لولا وجودها لكانت صورة رجل جالس لا يفعل شيئًا، فقط يتموضع لالتقاط صورة. تطورت الجرائد من صفحة واحدة كأنها رسالة أو نشرة صغيرة، ثم تعددت الأوراق وكبرت مساحة الصفحات لاحقًا، لتزدحم بالإعلانات في مساحة تكاد تنافس مساحة الأخبار والآراء، وصارت صالحة لتدفئة الصدر أسفل الملابس، والتخفي، والافتراش، والالتحاف -في ظروف نكِدة معيّنة- حتى انحسرت لصالح صحافتنا الإلكترونية الحالية. صار من النادر أن ترى جريدة ورقية في يد أحدهم، وغالبًا ما يكون متقدمًا في السن.
الجريدة، المقابل الضخم القديم لشاشاتنا المحمولة الصغيرة، يدفن فيها من أراد أن ينشغل عمَّن وعمَّا حوله وجهه، ويختبئ خلف صفحات كبيرة تقول لمن أمامها: “لا تزعجني، أنا منشغل كما ترى”. كما أنها تخفي انفعالات قارئها تجاه ما يقرأ، فلا تظهر على وجهه ابتسامته البلهاء أو الحقيقية استجابة لحوار آنيٍّ دائر، أو امتعاضه من خبر أو شخص لا يعجبه، أو تحمسه لخبر أو شخص يعجبه، أو سخطه على رأي يخالفه، أو حدقتيْ عينيه المتحركتين مع صورة ليست متحركة ولا يصاحبها صوت.
مقهى، وأنت مع الجريدة جالسٌ
في الركن منسيًّا، فلا أحد يهين
مزاجك الصافي
ولا أحد يفكر باغتيالك
كم أنت منسيٌّ وحرٌّ في خيالك!
أحببت ذلك المقطع من قصيدة درويش، ألا يتمتع ذلك الرجل الجالس في صالة بيته بميزة عن الجالس في مقهى درويش؟ إن غضضنا البصر عمن يلتقط له الصورة، جلوس أحدنا متوحدًا مع ما يقرأ، بين جدران بيته، حيث احتضان الجدران وحميمية الأثاث والأمان والهدوء، محاطًا بما يحب، مفضلاً العزلة على صخب العالم، منتقيًا ما يسمح بالتطفل على عزلته، متجنبًا ما ليس له ذنب في خرابه وما ليس له حيلة في إصلاحه، حاكمًا بأمره في مجاله الخاص. “منسيٌّ وحرٌّ في خياله”. لا أحد يفكر باغتياله لأنه ببساطة لا أحد، إن لم يكن رقمًا يضاف إلى تعداد الأضرار الجانبية.
أذكر أنني منذ ما يزيد عن عقد من الزمن، غداة التنحي/ التخلي الشهير، نزلت خصيصًا لشراء الجرائد، اشتريت أشهر خمس جرائد في ذلك الوقت، ما بين حكومية وحزبية ومستقلة، لأقرأ الخبر في خمس صياغات مختلفة، واحتفظت بتلك الإصدارات الخمس طوال تلك السنوات حتى شهور قليلة مضت، ثم استخدمتها فيما تُستخدم فيه الجرائد عدا القراءة. ذلك الزمن الذي مر، بيَّن بجلاء الفرق بين لهفة تلقي القارئ للجريدة من يد البائع الصغير الراكض في الشوارع، الهاتف بأعلى صوته: “اقرا الحادثة” أو معلنًا عن أهم خبر في ذلك اليوم، وبين تصفحنا المتراخي لمواقع الصحافة الإلكترونية على الشاشات، بلا لهفة، أو دهشة حقيقية، متخمين بالأخبار سفيهها وعظيمها، ما بين مستجدات أحداث ومشاهير و”مؤثرين” و”ترندات” أوصرعات وبين جرائم وجوائح وحروب وصرعى، ثم ندق بعد ذلك على لوحات المفاتيح مصدرين تعليقاتنا على الأخبار من منصات مختلفة، لتصبح تلك الآراء بدورها -حسب درجة شهرة قائليها أو كثرة عددهم- وقودًا للصحافة والإعلام في دائرة لا بداية لها ولا نهاية كثعبان يقضم ذيله أو كائن يتغذى على نفسه أو كما نقول بعاميتنا العبقرية “من دقنه وافتِلُّه”.
لماذا يحرص أحدهم على شراء الجريدة كل صباح؟ لماذا نتصفح المواقع الإخبارية بمجرد أن نفتح أعيننا؟ بها شيء يجذبنا بالتأكيد، وليس لمجرد مواكبة ما يحدث في العالم. كتبت الشاعرة الأمريكية بينينا مُوِيز (1797-1880) قصيدة فصلت فيها محتويات الجريدة -أي جريدة- في زمنها وكيف تغيرت تلك المحتويات، لاحظ أننا نتحدث عن القرن التاسع عشر، حيث كانت الجريدة:
في البداية مقتصرة على رؤى الفصائل
مجرد سياسات، أو تكهنات متثاقلة.
ارتفعت الآن إلى شبه موسوعة
حيث الفنون المجمعة، تُسر بالزخرفة.
أرضيتها الفسيفسائية مزينةٌ أبدًا
بجواهر مصقولة لها مذاقات متنوعة.
تغيرت محتويات الجريدة، لترضي كل الأذواق، وتصبح وسيطًا للتسويق. وبين مناحي الحياة ونعايا الموت، تتألق الأخبار الخفيفة، وتتواتر الأخبار المخيفة، حتى يعتادها القارئ، وتصبح طبيعية، مثل تلك الصورة التي تظهر أحد النهابين -على حد قولهم- على هامش الحرب الروسية الأوكرانية مقيدًا بالشريط اللاصق في عمود إنارة، وصورة أخرى منذ سنوات تظهر مدير أحد المتاحف في دولة من دول “الهلال الخصيب” مقيدًا، رأسه المقطوع أسفل قدميه، في عمود إنارة آخر، ناهيك عن أخبار المقابر الجماعية وصورها، فتتراجع الصدمة بفعل الاعتياد، ويصبح اليأس كرسيًّا وثيرًا تجلس عليه لقراءة جريدة:
عندما يظهر الحب المنتصر في ضريحه
هناك، يقدم الحنان الثاكل، قربانه
وتنطرح روائح الأمل المهشم على مذبح الموت.
لكن مالنا وتلك الأمور الكئيبة، تغطي الجريدة أخبارًا مسلية تصبح مادة خصبة للإعادة التدوير بين القراء، مادة لسخريتهم ولطمياتهم، لفكاهاتهم وبكائياتهم، اعتمادًا على أين يجد القارئ نفسه من الخبر. إعلانات عن سلع مختلفة، النوادر والطرائف، الأسعار الحالية، الموجات الحارة والباردة، آراء النقاد المؤلهة أو الخاسفة، وبهذا تختم بينينا قصيدتها:
وهكذا ألقت عبقرية المصالح المتضاربة
العناصر المؤلفة لهذا العالم النموذجي.
أتذكر القارئ مرة أخرى، ذلك “المنسيّ”. أتخيل هذا الرجل أبًا أو جدًّا لأحدهم، ويريحني أن أعتقد أنه جد أكبر لأحدهم، فكل جيل يقل ارتباطه العاطفي بمن وما سبقه، تُلقى الأوراق والكتب أو تُباع بجنيهات قليلة ليخلصنا منها بائع -أو مشترِ-الروبابيكيا، وتُهجر البيوت وتُترك للغرباء إهمالاً أو تأجيرًا أو بيعًا أو هدمًا. لا أتصور ابنًا أو حفيدًا أو قريبًا أو حبيبًا يلقي بمثل هذه الصورة، بما تمثل من إرث عائلي أوذكرى حنون. ربما أُلقيت الصورة سهوًا أو خطأ، ربما رحل أحبة الرجل قبل رحيله أيًّا كانت صور الرحيل، ربما كانت صورة صديق استقرت في بيت غريب لم تتعرف أجياله التالية عليه.
ستنكرنا السنون، ويجهلنا القادمون، وإذا كان الحظ حسنًا، ربما يُعاد إحياؤنا للحظات بعد عدة أجيال بصورة أو ورقة، حتى إن كانت لمجهول. لن ندري بذلك، ولن نستفيد شيئًا، ولكننا قد نحرك بحيرة الانفعالات الراكدة في أعماق هؤلاء القادمين، تحريكًا هادئًا لطيفًا باعثًا لمشاعر مختلفة وتأملات انطباعية كهذه التأملات أو ربما أعمق منها. ربما يُعجب أحدهم بورقة سطرت فيها امرأة في نهاية عقدها الخامس جدولاً تسجل فيه مواعيد وجباتها وكمياتها وأصنافها وعدد ساعات امتناعها عن تناول الطعام، لتكون شاهدًا على التزامها أو عدم التزامها في حميتها الغذائية، في محاولة للحفاظ على ما بقي من صحة حذَّرتها بمؤشرات التدهور، وتأمل من وراء ذلك أن تمضي ما بقي لها من عمر من دون الاحتياج لأحد. ربما ينبهر أحدهم بجواز سفرها المنتهي، وخط محرره، حين كانت بيانات جواز السفر تُكتب بخط اليد، وحين كانت طفلة في الخامسة قصيرة الشعر تطل عليه صورتها بعينين بريئتين فرحتين متوقدتين قبل أن يطفئهما تقدم العمر وخمود الحماس وموت الدهشة. من المحتمل أن يُعجب أحدهم بشهادة نجاحها في المرحلة الثانوية التي اجتازتها في بلد آخر، ومن درجاتها المرتفعة الواشية بدفن وجهها في كتبها المدرسية بسبب الحياة الجافة من حولها، التي لم تترك لها منفذًا لقضاء الوقت ولا نافذة لمعرفة جديدة إلا بالدراسة. أو قد يتعجب أحدهم من إيصال مشترياتها بأسعار زهيدة للغاية عن أسعار زمنه لكنها في زمنه أسعار أصابها السعار. من الممكن أن يحاول أحدهم تبين الوجوه وطراز الملابس في صورة جماعية تجمعها بأناس فرقها عنهم خلاف أو مكان أو زمان أو تغير في التفكير نتج عنه تباعد وإطلاق أحكام. إذا كان حظنا حسنًا، سيستننقذ أحدهم صورنا من قرص صلب في حاسب محمول كف عن العمل، أو ذاكرة هاتف محمول أُهمل لقدم طرازه، وقد مر زمن على كوننا محمولين بدورنا، بعد رؤيتنا للضوء في آخر النفق.