إلى هاني درويش
“أنا قلبي كورة… والفراودة أكم”!
صلاح جاهين
لم يعد يمكنني مشاهدة مباراة في كرة القدم لفريق برشلونة دون أن يخطر في بالي هاني درويش وهو يقفز عاليًا بوجه محمر من الحماسة والكحول، ويطوّح بكأس البيرة في الهواء فيسقط عليَّ وعلى صديقنا باسل رمسيس وعلى بعض الحاضرين في أحد بارات مدريد حيث مباراة لفريق برشلونة. تشجيع هاني الجنوني لفت انتباه الجميع وخصوصًا من يرتدون قميص برشلونة ويشجعون فريقهم بجنون أيضًا، لكنه لا يصل إلى جنون هذا الشاب الأسمر الذي يتحدث بلسان غريب، ولكن كما يقول نشيد البرسا “لا يهمّ من أين أتينا، من الشمال أم من الجنوب”. لم أر أحدًا يشجع فريق برشلونة، وهو فريقنا المفضل، مثلما كان يفعل هاني. ليست الحماسة وحدها، لكن الفهم الدقيق لكرة القدم وطرائقها والتعامل معها كفن مطلق له ما لغيره من الفنون.
في عام 2010 كتب هاني في ملحق “نوافذ” مقالة بالغة العذوبة عن ميسي، أنهاها بهذه العبارة “ميسي لا ينظر إلى الخصم، ميسي ينظر إلى أجزاء من جسد الخصم، لقدمه، لخصره، ولأنه يعلم استثنائية تلك المترادفات لديه يوجه الطعن في صمت، يمر كما الماء في الماء، وهنا تكفي الإستعارة”.
لم يعش هاني ليرى ميسي وهو يتدهور قليلاً. لم يعد يلعب باستمتاع وبقوة كما كان يفعل طوال الأعوام السابقة. هو نفسه قال إن الكرة لم تعد أول اهتماماته، وإن ابنه أصبح يشكل محور هذا الاهتمام الأولي. توجد ثقة لدى البعض في أن البرغوث سينتفض من جديد وسيعود ليصبح الأعظم في العالم وربما في تاريخ كرة القدم كلها. الجميع ينتظر كأس العالم، فإذا حصلت عليها الأرجنتين بقيادة ميسي فلن يقف في طريقه لا بيليه ولا مارادونا كي يطوّب الأفضل في التاريخ.
* * *
أعمل في القسم العربي من إذاعة إسبانيا الخارجية، وأقدم برنامجًا رياضيًّا كل أسبوع لمدة عشر دقائق، أنفق معظم الدقائق العشر في الحديث عن كرة القدم الإسبانية، التي تتسيد العالم حاليًا بفرقها الأشهر في العالم. يكفي أن أكبر ناديين في العالم إسبانيان، برشلونة وريال مدريد، وأن أهم كلاسيكو في العالم هو اللقاء الذي يجمع بينهما، إضافة إلى أن إسبانيا حازت بطولة أوروبا في آخر دورتين متتاليتين حصلت بينهما على كأس العالم للمرة الأولى في تاريخها.
* * *
في الكرة أحيانًا، ليس من المهم أن تكون الأفضل، المهم أن يحالفك الحظ، ما يعني أنه يمكنك اللعب تسعين دقيقة، أن تستحوذ على الكرة، أن تخلق فرصًا للتهديف، وفي لحظة واحدة ومن هجمة مرتدة يأتي الهدف من الفريق المنافس، من ضربة حظّ وفي اللحظة الأخيرة. لا تعلمنا الكرة أن العمل الجاد يمكن أن يصل بك إلى القمة. الكرة مخادعة، في لحظة واحدة تنقلب عليك، لهذا يسمونها الساحرة المستديرة. ساحرة لأن السحر يكمن في كل حركة فيها، ومستديرة لأنها تستدير عليك.
فلماذا كان لا بد لريال مدريد أن يفوز بالكأس العاشرة في مسيرته الأوروبية بينما أتلتيكو مدريد يخرج دون أن ينال أول لقب أوروبي له؟ لماذا يأتي الهدف في الدقيقة الثالثة من الوقت بدل الضائع وبينما كان “الكولتشنيروس”، وهو لقب فريق أتلتيكو مدريد، ويعني “منجدي المراتب” وذلك في إشارة إلى اللون الأحمر والأبيض لقميصهم الذي كان في السابق لون مراتب الأسرّة الوحيد في إسبانيا، بينما كانوا يستعدون لاحتفال آخر مجنون، بعد تتويجهم السبت السابق بلقب الدوري/ الليجا الإسبانية، تأتي الدقيقة الثالثة بعد التسعين من الوقت الإضافي لتقتل كل شيء وينهار بعدها الفريق الاستثنائي لهذا الموسم. كأنه ليس للفقراء مكان في ذلك العالم أيضًا.
يمكن القول بكثير من التجاوز إن مشجعي أتلتيكو مدريد هم الطبقات الأفقر ماديًّا، ولكن هناك أيضًا الكثير من الفنانين والكتّاب واليساريين وحتى ولي العهد، مولعون بهذا الفريق الذي فصلت أربعون عامًا بين وصوله إلى نهائي أوروبي في دوري الأبطال، بينما ريال مدريد هو النادي الملكي، نادي الأغنياء، نادي اليمين الإسباني إجمالاً، الذي جعل فرانكو، ديكتاتور إسبانيا، يجبر لاعبي برشلونة على هزيمة مدوية أمام الريال بأحد عشر هدفًا وإلا كان الثمن رقابهم. الشاعر والمغني الإسباني المعروف خواكين سابينا، وهو أحد كبار مشجعي أتلتيكو مدريد، كتب ولحّن أغنية باللغة العاطفية من أجل الفريق في عيده المئوي، يقول في مقطع منها:
يا لها من طريقة للتحمل
يا لها من طريقة للفيض
يا لها من طريقة للعيش
يا لها من طريقة للحلم
يا لها من طريقة للتعلم
يا لها من طريقة للمعاناة
يا لها من طريقة للموت
يا لها من طريقة للفوز
يا لها من طريقة للشعور
* * *
كرة القدم أيضًا دموية، حيث الموت والعنف والعنصرية والإهانة، وحيث المتعة والصناعة، وحيث الطيب والشرير، وحيث الأضواء والظلال، وحيث اللاعب “يركض لاهثًا على شفير الهاوية. في جانب تنتظره سماوات المجد، وفي الجانب الآخر قوة الدمار”، على ما يقول إدواردو جاليانو. لا يمكن ذكر كرة القدم في العالم الهيسباني من دون ذكر إدواردو جاليانو وكتابه ذائع الصيت وقد ترجمه إلى العربية المترجم الكبير صالح علماني بعنوان “كرة القدم بين الشمس والظل”. في هذا الكتاب الشيق يقدم جاليانو في نصوص شديدة الذكاء والجمال، يغلب عليها القصر، عوالم كرة القدم، منها حارس المرمى، المشجع، الهدف، الحكم، المدير الفني، الاستاد، الكرة.
وفي نصوص أطول نسبيًّا يتناول تاريخ كرة القدم وقواعدها، ويقدم كذلك بعض الحوادث الشهيرة وبعض اللاعبين وبعض الأندية. وهكذا. من الأوروجواي يأتي كاتب آخر، مولع بكرة القدم، “أوروجواي فازت بأول كأس للعالم عام 1930 وقد أقيمت البطولة على أرضها ثم عادت وفازت به بعد عشرين عاما عام 1950”. إنه الشاعر والروائي الشهير ماريو بينيديتي (1920-2009). بكتابته قصة “الجناح الأيسر” في مجموعته القصصية الصادرة عام 1959 “أهالي مونتفيديو”، أصبح لكرة القدم قدم في الأدب، بعدها بسنوات عدة كتب قصة طويلة بعنوان “العشب”، ويعني عشب ملعب الكرة وتبدأ هكذا “العشب، من المدرجات هو بساط أخضر، مستوٍ ومنتظم ومخملي ومحفز. من المدرجات ربما يعتقدون أنه من المستحيل مع سجادة كهذه أن تضيع هدفا وأقل من ذلك بكثير أن تضيع تمريرة”.
الشاعر الإسباني لويس جارثيّا مونتيرو والناشر الإسباني خيسوس جارثيّا سانشيث، نشرا أنطولوجيا شعرية مخصصة لكرة القدم شارك فيها شعراء من إسبانيا وأميركا اللاتينية وصدرت عام 2012 تحت عنوان “كرة مسمومة” عن إحدى أكبر دور النشر الإسبانية.
يوجد أكثر من ستين شاعرًا بين دفتي الكتاب؛ ومن بين هؤلاء الشعراء نجد أسماء كبيرة مثل رافائيل ألبرتي وميجيل إرناندث ومانويل موخيكا لائينيث وجابرييل ثيلايا وميجيل آبيلا وخيراردو دييجو وكلارا خانيس وماريو بينيديتي في قصيدة مهداة إلى مارادونا.
مدريد
*نشرت النسخة الأولى من المقال في النهار اللبنانية ٦ يونيو٢٠١٤