المدن التي على وشك الاختفاء
ما الذي يجعل مدينة ما “مدينتي“؟!
تولد المدن فتية، واعدة.. وتعيش طويلاً، طويلاً جدًا، تعيش لآلاف السنين، ثم تموت. ليس هناك مدن لا تموت؛ لماذا تموت المدن؟ يغرقها فيضان أو يهدمها زلزال أو يأكلها بركان.. أو، وهو ما يحدث غالبًا نقتلها نحن؛ عندما تأتي عليها الحرب..أو توحش سلطة تزكل مدينتها ، فتصير أنقاضًا؛ خرائب مخيفة تتجول فيها الأشباح والشياطين والذكريات. يشبهونالمدينة في شبابها بامرأة جميلة يخطب الجميع ودها، يتقاطرون إليها،سكان المدينة يتعاملون بالوعي المتوارث على أنها كذلك ، وهي–المدينة– تحب ذلك، وتفخر به، حتى تصبح عجوزًا، شوارعها تجاعيد ومبانيها أمراض متوطنة.. وسكانها قدماء.. يشبهونها، لكنهم مع ذلك لا يحبون التخلي عنها، فذكرياتها ذكرياتهم، وتفاصيلها تخصهم، وأحلامها باستعادة الماضي تتلخص في مصمصات شفاه أسيانة.. تقضي المدن وسكانها سنواتها الأخيرة في اجترار الذكريات عن أيام الجمال والازدهار..
حين يغادر الشخص مدينته، مضطرًا أو بإرادته الكاملة، ينظر إلى الخلف، يحاول أن يحتفظ في ذاكرته بأكبر قدر ممكن من الصور؛ يزور الأماكن التي يتوقع أن يفتقدها، مقاهيه المفضلة، شوارعه القديمة، بيوت الأصدقاء والعائلة، وخط مسيره المعتاد لسنوات طويلة. ثم يذهب وهو يأمل أن يعود، حتى لو ليدفن في مكانه، لكنه ربما لا يعود، وتظل العودة تطارده، في أحلامه، وفي حديثه، وفي كتابته، وفي استعاراته لكل ما يجيء من هناك؛ فهذه الشجرة تشبه تلك التي هناك، وهذه الأكلة لها رائحة تشبه تلك التي كانت هناك، وهذا الشخص يشبه حبي الأول هناك، وهذه الهزيمة طبق الأصل عن تلك التي كانت هناك.. إلخ.. إلخ.
ليس من السهل إذًا أن يشهد الشخص مدينته وهي تختفي؛ إذا اختفت مدينتي سأواجه الحياة بظهر عارٍ. إذا اختفت مدينتي ستأكلني الشياطين والأشباح.. لا يمكن لمدينة أخرى أن تصبح مدينتي.. لماذا لا يمكن لمدينة أخرى أن تصبح مدينتي.. ما الذي يجعل من مدينة بالذات “مدينتي“؟
…
هانحن في ” مدينة” نسمع أصوات المنفيين إلى مدن آمنة، بينما مدينتهم على وشك الإختفاء، الأصوات تقاوم بما تمتلكه من ذكريات، عاطفة، نوستالجيا، وعي مشوش، وأرواح معلقة، تلك المقاومة المؤلمة، حيث حب المدينة لا يخلو من قسوة.
رسالة إلى الصبوحة…
لا تموتي قبل أن أقص عليك حكاية قبل النوم
أخاف عليك من الموت لذا أكتب إليكِ، ولأكون صادقة أكثر، أخاف أن تموتي قبل أن تصلك رسالتي
لم أبح سابقًا بأني كنت جبانة ولا أزال، أتجاهلك ولا قدرة لي على الاتصال وسماع صوتك المتهدج المخنوق بالدموع التي تسارع إلى خنقني، ربما الكتابة أسهل بعيدًا عن المواجهة، لكنك لا تقرئين، سيقرأ العالم ولن تقرئي، سيعرفون كم أشتاق إليك ولن تعرفي، أنا التي وعدتك يوما بكتابة قصتك المليئة بالأحداث الدرامية ولم أفعل، فهي من كثرة الأحزان ستشبه فيلمًا هنديًّا لن يصدق العالم أحداثه وكمية المصادفات فيه. سامحيني، في زمن الحرب لم يعد لقصصنا الإنسانية مكان، قصص موتنا مغرية أكثر للنشر، ربما إن متِ بقذيفة او رصاصة قناص سنحظى بفرصة أخرى لاستعراض حياتك التي ستكون محط اهتمام، لكن اعذريني فإن كان موتك طبيعيًا ستضيع فرصتنا في النشر.
جدتي.. للمرة الأولى في حياتي تخونني الكلمات وأنا أكتب، يبدو أني أهرب من الكتابة أيضًا… رأسي فارغة، صندوق أجوف، فقط كلمة.. اشتقت لك.
صبوحة… هكذا كانوا ينادونك، باسم أكثر مطربات الشرق الأوسط شهرة بجمالها وحبها للحياة، لديكما نفس الاسم تقريبًا لكنك لم تكوني يومًا شغوفة بالحياة مثلها.
لم تكوني كجدات الحكايات التي كنا نشاهدها في التلفزيون أو نسمع عنها، تجلس على طرف السرير وتقرأ قصصها من كتاب ملون، كنت تستلقين جانبي وتحكي لي قصصك وقصص العائلة من أبناء الخالات والعمّات وصولاً إلى قصص الزواج والطلاق والحفلات والمشكلات، هي حكاياتك التي شاركتني إياها وكأننا نتشارك الأسرار، عن جدي الذي تزوجك وأنت في الثالثة عشر من عمرك تحت ضغط من العائلة، كنت طفلة تريدين متابعة الدراسة لكن عمك أعادك وأنت في الطريق إلى المدرسة، كنت يومها في الثامنة حين قال لك “ليس لدينا بنات تذهب إلى المدرسة“، كنت تكرهينه كثيرًا، لم تسامحيه يومًا، في كل مرة تعيدين على مسمعي هذه القصة تبكين، وتوصيني بإكمال دراستي كي لا يحكمني رجل، كنت حلمك وقد حققته، ربما لم أصبح طبيبة كما أردت، لكن لم يحكمني رجل، أصبحت حرة كما أوصيتني.
كل هذه القصص عن العائلة لم تكن تعنيني حينها، لكنها اليوم مرجعيتي وثقافتي، بيئتي وانتمائي، أدفع عمري الباقي لاستعادة ليلة نستلقي بها في سريرك الواسع المفعم برائحتك، أنصت إليك وأنت تبوحين.
هل تذكرين يوم زفافي، كنت قد وعدت أن تخيطي لي من كل لون فستان، وجمعت المال لذلك، لم تفعلي فلم تكوني راضية عن خياري، ولو كان أفضل رجل في العالم لن ترضي به إذ كنت تعتقدين أني أميرتك التي لا يستحقها أي رجل عادي.. بالمناسبة أود الاعتراف لك بأن حدسك كان صائبًا، لم يكن رجلاً استثنائيًّا يليق بأميرة لذا طلقته. لكن قصة الفستان تذكرني بفستان عرسك، كانت قصتك ضربًا من الخيال يصعب تصديقها، كيف فعلوا بك هذا؟ قرر زوج أختك التي ماتت أن يتزوج من العائلة الكريمة الأخلاق نفسها كما وصفوكم، ولم يكن هناك سواك، أجبروك على الزواج به، كنت طفلة تتبولين في سريرك ليلاً، وبكيت بحرقة يوم ألبسوك فستان أختك الميتة يوم زفافك، وكأنهم يعلنون موتك بهذا الفستان، بكيت معك، وكنت بارعة بذكر التفاصيل، وأكاد أجزم لو أنك تعرفين الكتابة لكنت من أهم الكتاب في عالمنا هذا. لن أنسى حزنك الذي كنت تستعيدينه، تطبقين على جفونك فتتساقط دموعك، حاجباك يتقاربان، عيناك التي تغيبان في الماضي فتستحضره لتعيشه من جديد، تعيشين اللحظة ذاتها في كل مرة تذكرينها، وكنت بارعة في إعادة القصص وتكرارها، لم أفهم هذه الصفة يوما، إذ كان لديك زخما لا ينتهي من القصص، لم كنت تعيدين بعضها مرارًا وتكرارًا؟
أريد أن أعترف لك بأني لم أكن أستمتع بقصصك وأنا طفلة، كنت أجدها مملة وكئيبة، لم تكن تحكي عن الأميرة ذات الرداء الأحمر، ولا عن الأمير المنقذ، كانت عنك، أنت الفتاة اليتيمة، التي وضعوا حجاب الرأس عليها وزوجوها عنوة، ثم تزوج زوجها بأخرى وأحضرها لتعيشا سوية في نفس البيت، لم تكن قصصًا تليق بطفلة، لكنها تليق بذاكرتي اليوم.
كنت تفتخرين بتمردك الذي استطعته حينها، ليس لك معيل لتنفصلي عنه، ولديك خمسة أولاد لا تقوين على الابتعاد عنهم، لذا حرمته من الاقتراب منك أو لمسك أو الحديث معك لخمس سنوات.. قوة لا يستهان بها في ذاك الزمان، كنت امرأة قوية وفي الوقت ذاته لك قلب كبير، لم تكرهي زوجته، قلت لي يوما أن لا ذنب لها فقد أجبروها هي الأخرى على الزواج به فهو تاجر ذا مال وجاه وهم عائلة فقيرة.
بدأت الاستمتاع بقصصك أكثر في مراهقتي، خصوصا عندما كنت تبوحين لي كامرأة عن كيفية اعتنائك بجمالك وأنت شابة، كيف كنت تتزينين بورود حديقتك التي تهتمين بها كل صباح، أتذكر كيف كنت تحدثينها وتصبحين عليها كأنها عشيقتك السرية. كنت تخرجين بعض الصور لتريني زهرة “اللحلحة” على رأسك، أشم رائحتها الآن تلك الزهرة الدمشقية التي اعتدتها مع قهوتي الصباحية حين كبرت، كنت تبوحين لي عن غيرتك على جدي، وأنه رغم اعتنائك بنفسك وجمالك إلا أنه لا يكترث ويفضل النوم مع زوجته الثانية التي لا تضاهيك جمالاً وليس لها أصولك الأرستقراطية؛ لكنه كما كل الرجال حسب وصفك يحبون القاع… أبتسم كلما تذكرت رأيك بالرجال ولا أخفيك أني أشاركك الرأي بعد كل علاقة فاشلة. وأتذكر نصائحك عن كيفية التعامل مع الرجل، هي نموذج للمرأة المثالية، اللطيفة مع زوجها، المطواع، التي تنال ما تريده بأسلوب لطيف غير مباشر لذا نشتهر نساء دمشق بفوزنا بقلوب الرجال وأطلق علينا المثل الشائع “من لم يتزوج شامية لم يعش عيشة هنية” لن أجرؤ أن أقول لك أني رميت كل هذه النصائح ولم آخذ بها فتجربتك في الحب والزواج لم تعجبني، لطالما أعجبتني أكثر المرأة التي لا تظهريها إلا في لحظات التجلي، تلك القوية التي تحثني على الاستقلال ورفض التبعية لأحد.
لكنك لم تجيدي الفرح يومًا مثلي، لم تكن نهايات حكاياتك سعيدة كما في الروايات والسينما، وحكايا الجدات، كانت واقعية لدرجة لا تصدق تتساوى مع الخيال في نقطة التقاء الألم… من أين لك كل هذه القوة على التحمل؟ كانت أمي تقول لي أنك ستذهبين إلى الجنة لما تحملته من عذاب في هذه الحياة.. أخاف أن تموتي، أنت بالنسبة لي دمشق التي لم أعد أسطيع التواصل معها، لا تموتي أرجوك، أتجاهل حديث أمي عنك وأخبار شيخوختك و مرضك، أنت البيت الذي تربيت فيه، أنت شجرة “اللحلحة” بلونها البنفسجي، بغناها وتفتح عناقيدها ، برائحتها وشهوتها للحياة وتسلقها على الجدران لتصل السماء، أنت فنجان القهوة الصباحي، أنت من جعلتني أميرة، أنت التي كنت تيقظيني ليلاً لنصعد على سطح بيتنا في المدينة القديمة لنشاهد المسحّر في رمضان يوقظ الناس قارعًا الطبول ليأكلوا ويصلوا قبل بداية صيامهم، كنت أرى المشهد مسحورة وكأنه على خشبة المسرح أو شاشة السينما، لا تموتي أنت ذاكرتي.. طفولتي قضيتها معك لا مع أمي، كانت تتركني طوال الأسبوع بسبب ظروف عملها، أتحدث بلهجة دمشقية ثقيلة وقديمة ورثتها عنك.. لكني لا أستطيع الحديث معك، كيف وأنت لا تقرئين، كيف وأنت تفقدين حاسة السمع، أفتح كاميرا السكايب لأراك في جهاز خالي.. كبرت كثيرا لكنك لم تتغيري، لم تعودي مشغولة بحكايات الماضي، بل بغيابنا جميعًا، لم يبق أحد ينادمك، شباب العائلة هربوا خوفًا من الالتحاق بالجيش، لا يريدون ان يقتلوا أو يُقتلوا، والبنات والأحفاد… فرقتنا البلاد وتركناك وحيدة، تركتك قبل أن تنهي حكايتك الجديدة، حكاية لم تنتهي بعد، حكاية الحرب وكم أتمنى أن تنتهي قبل أن تموتي لعلك تمتلكين قصة واحدة في حياتك لها نهاية سعيدة..
هل تذكرين آخر محادثة لنا، جميعنا طلب منك الخروج، القصف والصواريخ تنزل على رؤوسكم، كان الخوف يحبس أنفاسي، إلى أن جاءت كلماتك التي حسمت الموضوع “هذا البيت دخلته وعمري 13 عاما، إن خرجت اليوم سأموت قهرا.. اتركوني أحيا ما تبقى لي هنا“.
لا تموتي علنا نلتقي يومًا ونبكي معًا في بيتنا الذي اقتلعوني منه.