رغم أن اللقاء لم يدم إلا يوماً واحداً إلا أنني وقعت في غرام نابولي؛ كلاسيكية أحياناً حين ترى مبانيها التاريخية، وأناركية أحياناً أخرى حين تدخل حواريها وشوارعها الجانبية المتشابكة، لها رائحة البحر و وعورة الجبل، مليئة بالتناقضات ولكنها تشع حياة
في هذا اليوم دفعتني نابولي للتفكيرفي ذاكرة المدن ومشاعرها؛ هل المدن يمكن أن تكون وفية بهذا القدر لمن منحوها لحظات من السعادة والمتعة والفخر والفرحة المجنونة فيظلوا في ذاكرتها وقلبها؟
سبب تساؤلاتي كانت صور مارادونا؛ دييجو أرماندو مارادونا، إبن المناطق الفقيرة في أرچنتين أمريكا الجنوبية، أمهر من لمست قدمه الكرة كما يرى البعض وأعظم من لعبوا هذه اللعبة الساحرة المجنونة كما يرى الكثيرون، صور مارادونا في كل مكان في نابولي مرسومة على المباني القديمة، معلقة داخل المحلات، و جرافيتي على الجدران، وفي أكشاك بيع الكتب في وسط المدينة أو في بيتزاريا في إحدى حاراتها الضيقة، هذا بعد رحيله عنها بربع قرن، و ميلنيلز نابولي المولودين منتصف الثمانينات شاع بينهم إسم: دييجو، مارادونا خالد في نابولي، لو تحدثت إلى طفل صغير لم يشاهده أبداً يلعب على الهواء أو مع شيخ في التسعين وجاء ذكره في الحديث ستلمح بسهولة نفس اللمعة في العيون .. في يوم ٥ يوليو ١٩٨٤ أصبح مارادونا لاعباً في نابولي إستقبله ٧٥ ألف متفرج إقتنعوا كما كتب أحد النقاد الإيطاليين ساعتها بأن: المُخلص قد جاء
أحد الجرائد المحلية كتبت وقتها “بالرغم من أن المدينة بلا أعمدة ولا منازل ولا مدارس ولا أتوبيسات ولا وظائف أو صرف صحي … كل هذا لا يهم، لدينا مارادونا” … جاء مارادونا في لحظة تفاوت إقتصادي حاد بين شمال إيطاليا وجنوبها، وسياسات عدائية تجاه الجنوب من أحزاب وقوى سياسية من الشمال، الجنوب منهزم في كل الأحوال في السياسة والإقتصاد وكرة القدم أيضاً، لم يفز أي فريق من جنوب إيطاليا ببطولة الدوري على الإطلاق قبل أن يأتي مارادونا، أتى الشاب – القريب لشخصية المدينة وروحها – قصير القامة غير المهندم ذو الأصول الإجتماعية المتواضعة والشخصية المتمردة إلى نابولي وتغير العالم كما كتبت أماليا سينوريللي باحثة الأنثروبولوچي الإيطالية، ١٠ مايو ١٩٨٧؛ أكثر مدن أوروبا ضوضاء وزحام وفوضى خلت شوارعها تماماً كما لو كان قد تم تخديرها، كانوا في إنتظار لحظة الفوز بالدوري، ثم إنفجرت الإحتفالات كبركان ڤيزوف القريب من المدينة، لم يخلو مكان من المدينة حرفياً من الإحتفالات حتى الصباح، جماهير تحمل توابيت .مغطاة بأعلام يوڤنتوس “السيدة العجوز”، روما، إيه سي ميلان، الإنتر، خرجت الرسالة مدوية ليلتها من نابولي: إيطاليا الأخرى هُزِمَت، وولدت اليوم إمبراطورية جديدة…
مارادونا حين جاء هزم إيطاليا الشمال الغني المسيطر على كل شئ حتى على بطولات كرة القدم، تأثير مارادونا إمتد أبعد كثيراً من حدود ستاد سان باولو، الهوة العميقة التي يستحيل عبورها بين شمال “الصناعة” و”البيزنس” و”الموضة” وبين “أرياف” الجنوب، عبرها الجنوبيون مع مارادونا في تلك الليلة، الساحر الأرچنتيني أعاد للمدينة كبريائها، خلق فرحة لم تعرفها من قبل ولم لا فقد هزم الشمال وسيطرته وأبطاله؛ يوڤنتوس ومعه الأسطورة ميشيل بلاتيني، إيه سي ميلان ومعه ماركو ڤان باستن، لوثر ماتيوس مع الإنتر، أودينيزي ومعه زيكو، لقد تغلب على كل هؤلاء السحرة ، هزمهم جميعاً، “مارادونا إله نابولي” عنوان فيلم قصير يخبرك فيه أهل نابولي كيف يمكن أن تغير كرة القدم مدينة، مارادونا أصبح رمزاً للتحرر ومُلهم للمدينة وأهلها لتتغير الطريقة التي يرون بها أنفسهم وبلا رجعة …ربع قرن لم يمحو صور البطل الأسطوري من المشهد حتى وإن كان قد ترك المدينة ممنوعاً من العودة إليها بفضائح تعاطي مخدرات أو الإبن غير الشرعي، هاهو يعود إلى نابولي يوم ٥ يوليو ٢٠١٧ وسط الألاف من أهل نابولي كـ “مواطن شرفي” بعد أن صَوَّت مجلس المدينة لتسليمه “مفاتيح” المدينة بسبب “الإلتزام والحب” الذين قدمهم للمدينة، بسبب “ما مثله ومازال يمثله للمدينة” كما صرح عمدتها الحالي .
يبدو أنه من الممكن أن تحرر مدينة بكرة القدم …
..
تذكرت تأملاتي في نابولي حول ذاكرة المدن وفرحتها وحريتها وكرة القدم وأبطالها الأسطوريين، حول كرة القدم اللعبة والولع المجنون، والصناعة التي تدور بداخلها مليارات الدولارات في العالم سنوياً مع ملاحظتي لردود أفعال متشنجة على فرحة الكثير من المواطنين المصريين في مدينتنا المتوترة غالباً بصعود المنتخب المصري لكأس العالم، ردود الأفعال المتشنجة تتعالى على الفرحة بـ”لعبة” وتشجب مكافأت من “يلعبوها”، ردود الأفعال المتشنجة تعيد تدوير كليشيهات قديمة مستهلكة عن “إلهاء” المواطنين بالكرة وتقارن فرحتها “الزائلة” بفرحة بما هو سياسي أو إجتماعي أو إقتصادي في نماذج لمقارنات ليست ذات صلة والأسوأ إنها خارج زمننا، الفرحة عند أصحاب ردود الأفعال هذه إقصائية، فلابد أن تفرح لأسباب “كبرى” وفقط
ما أدهشني هو التمسك بأنماط تفكير قديمة قادمة من القرن الماضي وسياقاته وحتي كليشيهاته المبتذلة في رؤية التفاعلات المركبة في مدينتنا كجزء من العالم الآن، عجز عن ملاحظة كم هائل من المتغيرات في تفضيلات البشر وأنماط حياتهم والأوزان النسبية لما قد يسعدهم أو يزعجهم، عن رؤية كيف تتداخل مشاعرهم وتتغير في الزمن والمكان؛ فرحة وخوف، تفاؤل وإنهزام، في مستويات عدة تتقاطع وتتماهي وتتباعد في أنماط شديدة التعقيد والتركيب تليق بمن يحيون في زمن جديد يتحركون فيه في فضاء شديد الإتساع ومتعدد الأبعاد يتفاعلون فيه يومياً مع ما يحدث في كل ركن في العالم حرفياً، بين فضاء مادي محدود يتحركون فيه بأجسادهم وفضاء لا نهائي يغرقهم فيه طوفان من الأحداث والأفكار يشتركون فيه صانعين ومستقبلين في صيرورة لا تنتهي … كرة القدم جزء من كل هذا المشهد المركب ليست أقل أو أكثر أهمية من أجزاء أخري، تؤثر في حياة البشر وأيامهم وأوقات تسليتهم أو جدهم وتتأثر بهم وبسياقاتهم، شغف مجنون وصانعة سعادة، لاعبوها نجوم وأمثلة للنجاح أو الإخفاق، يصنعون دراما في الملعب وفي حياتهم المهنية – وهي شاقة وقصيرة- أو الخاصة، بل حتئ يصنعون دراما في البلاي ستيشن في منافسات يومية يخوضها ملايين الشباب والمراهقين، يصعد نجمهم أو يأفل، نتفاعل معهم كشخوص نعرفهم عن قرب نفرح لبعضهم ونحزن أو نشمت في أخرين، مشاعر مكثفة؛ إنفعالات محمد صلاح -التي تغيرت بشكل حاد في أقل من دقيقة- في الملعب بعد هدف الكونغو أو المشجع الباكي في المدرجات أو الشاب الذي كاد أن يطير وهو يرقص بقدم واحدة وعكازان كلها أمثلة، يبدو التعالي على كل هذا وكأنه تعال على الحياة ذاتها كلعبة، على أن يكون البشر بشر !!
ولا يبدو أن أصحاب ردود الأفعال المتشنجة يرون بشكل جيد كرة القدم كصناعة عملاقة أيضاً، مليارات الدولارات سنوياً تدور في كرة القدم والصناعات المرتبطة بها من الملابس والأحذية الرياضية إلى البلاي ستيشن، تكنولوچيا معقدة في النقل التلفزيوني يدفع تطورها محاولة الإمساك بكل لحظة “زائلة” من لحظات المتعة بأداء بدني أو ذهني معجز من لاعبين موهوبين، أو بتدخل خططي “علمي” لمدرب عبقري، القياسات الإحصائية والبدنية والتخطيط والتفكير “الإستراتيچي” جزء كبير من متعة “اللعبة” لمن يريد أن يفهمها كما هي الآن في العقد الثاني من القرن الجديد؛خليط معقد ممتع من الإبداع الإنساني والعلم والصناعة …
كرة القدم ظاهرة إنسانية فريدة في الملعب والمدرجات وأمام الشاشات، متسعة ومركبة كحياتنا، لمن يعرفون في أي زمن نحن، لمن يفهمون أن العالم ومن يعيشون فيه الآن يتحركون في مستويات وأبعاد عدة متشابكة، و أن العالم “الخطي” قد إنتهي وبلا رجعة