ترى من يتحمل المسؤولية؟ صغار المسؤولين أم كبارهم؟ لماذا تستمر الكوارث وكأنها بلا نهاية؟ لماذا تتكرر أزمات الصرف والقطارات والتعليم والصحة، وسَمِّ ما شئت، على الرغم من تغيُّر الأنظمة –نظريًّا– وتعاقب الوزراء من كل الخلفيات؟ لماذا تغضبنا تصريحات المسؤولين، أو تضحكنا، وشر البلية ما يضحك، ولكنها غالبًا لا تجيب عن الأسئلة أو توضح شيئًا؟ لماذا تبدو كل أزمات أو كوارث الدولة المصرية وكأنها مزمنة، وأبدية، كأنها إعادة لا تنتهي لحلقات مسلسل قديم؟
إن قلة، وأحيانًا انعدام، كفاءة أجهزة الدولة ومن يديرونها واقع يصعب إنكاره مع كل هذه المشكلات –وأحيانًا الكوارث– التي تحدث بكثرة، ويتحدث المسؤولون بشأنها بكم هائل من التسطيح والاستفزاز في تصريحاتهم لوسائل الإعلام، وللأسف– في إجاباتهم عن أسئلة المسؤولين الأكبر الذين لا نعرف تحديدًا ما يعرفون عما يسألون عنه!
الأسئلة الأهم في نظري هي عن الكيفية التي يصل بها محدودو الكفاءة إلى مناصب عليا في الدولة المصرية – والأمثلة كثيرة؟ ما آليات الصعود؟ هل محدودو الكفاءة استثناءً؟ كيف “تدوِّر“ أجهزة الدولة هذه الماكينة /”النظام“ العملاق؟ كيف يتغير أداء أجهزة الدولة في وجود من هو كفء أو محدود الكفاءة؟ هل هناك فارق في أداء أجهزة الدولة المصرية في خلال ما تعاقب على مصر منذ 25 يناير أو حتى ما قبلها؟ هل هناك فروق جوهرية بين أداء وزارات على لطفي، أو عاطف صدقي، أو عصام شرف، أو هشام قنديل، أو إبراهيم محلب، أو مصطفي مدبولي؟ هل نقص كفاءة القيادات هو السبب في ضعف أداء الأجهزة؟ ما معنى ما تردد، بعد عزل مرسي، من ضرورة وجود رئيس “تطيعه أجهزة الدولة“؟ لماذا يبدو أن أجهزة الدولة تحتاج إلى “ترويض“ وإجبار على الطاعة؟ لماذا لم تروَّض أجهزة الدولة هذه رغم القوة المفرطة التي تستخدم حاليًا؟
ربما تقود محاولة إجابة الأسئلة السابقة إلى استنتاج أن المشكلة أكبر من كفاءة قيادات أجهزة الدولة أو عدمها، هل تحسَّن مستوى التعليم مثلًا بتغير أسماء وزراء التعليم على مدى الثلاثين عامًا السابقة؟ هل قلَّت حوادث القطارات بتغير أسماء وزراء النقل؟
يبدو أن تصميم منظومة System/ إدارة الدولة المصرية بأكملها هو مصدر نقص أو انعدام الكفاءة. كيف؟
يُعرِّف خبراء النظم أي “نظام/ منظومة/ سستم“ بأنه مجموعة من العناصر التي تتصل فيما بينها بعلاقات بينية تكاملية لتأدية وظيفة ما، أو لتحقيق هدف ما. عند محاولة رؤية أجهزة الدولة المصرية في ضوء هذا التعريف نكتشف بسهولة أن هناك أعطاب في المكونات الثلاثة للمنظومة: “العناصر“؛ المادية والمعرفية والبشرية، “العلاقات“ التي بها تتصل العناصر و“الأهداف أو الوظائف“ التي بها يتم تعريف المنظومة.
من السهل أن نلاحظ أن العديد من أجهزة الدولة، إن لم يكن أغلبها، لا تقوم بتحقيق أهدافها/ وظائفها – إن كنا نعرفها من الأساس، مخرجات/ منتجات أجهزة الدولة المصرية قليلة أو عديمة الجودة. لنأخذ التعليم الحكومي مثالًا؛ العملية التعليمية بدءًا بطابور الصباح حتى امتحانات آخر العام بلا تعليم وبلا هدف، بلا منتج حقيقي، ماكينة تدور بشكل آلي عام بعد عام بلا عقل؛ هدفها الوحيد هو “الدوران“ نفسه أو “استمرار“ العملية التعليمية كما يصرح مسؤولو الوزارة دائمًا مع إضافة شكليات حديثة أحيانًا. يمكن القياس على بقية أجهزة الدولة؛ “دولاب العمل“ – ذلك التعبير الذي كان من المعتاد استعماله في أروقة ومتاهات البيروقراطية المصرية – يسير وتتدهور معه المخرجات يومًا بعد يوم، تبقى “هياكل“ الأجهزة والمؤسسات ومعها “وهم“ الحركة و“الدوران“ بلا منتج حقيقي. وأزعم أن غالبية أجهزة الدولة المصرية مُصمَمة وهدفها أن “تدور“ لا أن “تنجز“.
وهنا، ليس مهمًا من يدير هذه المؤسسة أو تلك، فالحاكم الحقيقي هو الماكينة/”المنظومة“ نفسها، “المنظومة“ تخلق لنفسها مسارات لإعادة إنتاج ذاتها، لإعادة إنتاج دورات الأداء في داخلها بشكل متكرر روتيني لا ينتهي، وهي تكتسب مع كل دورة زخمًا وقوة دفع تجعل محاولة اعتراض طريقها أو تغيير اتجاهها في منتهى الصعوبة. هنا يمكن فهم لما يتصور البعض أن أجهزة الدولة تحتاج إلى رئيس قوي يروضها على الطاعة، ويمكن أيضًا فهم لماذا سيفشل أي رئيس “قوي“ في فعل ذلك.
المعضلة ليست فقط في وجود “أعطاب هيكلية“ في المؤسسات والأجهزة الرسمية، بل أيضًا في العلاقات المعيوبة والمواقع الخاطئة لنقاط اتصال أجزاءها الداخلية ببعضها بعضًا، واتصالها بالأجهزة الأخرى خارجها، ومن ثم عجزها عن تحقيق أي هدف بشكل مكتمل، أو أداء أي وظيفة حقيقية بشكل جيد.
“السستم“ قادر على تكوين لجان تنبثق منها لجان أخرى ثم لجان أخرى لحل المشكلات، لكنه غير قادر على حل أي مشكلة تمامًا، مشكلاتنا جميعها – تقريبًا – أضحت مزمنة.
هل تذكرون مجلس علماء مصر الاستشاري الذي شكلَّه رئيس الجمهورية بعد انتخابه في الدورة الرئاسية الأولى؟
المزعج أيضًا أنه مع تراجع مستوى المخرجات مع كل دورة للـ “سستم“ يتراجع مستوى القيادات، فهم قيادات على قدر وحجم ما يؤدونه، ومن يأتي من خارج “السستم“ يقهره “السستم“. هنا يحتاج النظام السياسي دائمًا إلى البحث عن “صنايعية“ الدولة – من يملكون مفاتيح “الدوران“ حتى ولو كانوا بلا أي إنجاز حقيقي– لإعادة تدوير الماكينة ودولاب العمل، وبدا استدعاء اسم السيد كمال الجنزوري في كل وزارة منذ الثورة وربما حتى الآن مثالًا دالًا.
سؤالان أخيران: أهذه الحالة قدرية لا فكاك منها؟ هل تطوير الماكينة/المنظومة “علشان تطلع قماش“- مثل ماكينة الأستاذ فؤاد المهندس في فيلم عائلة زيزي– مستحيل؟ الإجابة “لا“ قاطعة.. هل الحل هو “إعادة الهيكلة“ بمنطق تغيير بعض القيادات وإعادة تقسيم الإدارات والأقسام؟ الإجابة “لا“ أيضًا..
يعرف خبراء النظم وإخصائيو “التفكير في النظم“ أن الحل في حالتنا يبدأ بإعادة تعريف “أهداف“ أجهزة ومؤسسات الدولة المصرية كلها، يجب أن نعرف لماذا يوجد في حياتنا “نظام“ يسمى “الهيئة المصرية العامة للكتاب“ أو “مصلحة الكيمياء“ أو “جامعة القاهرة“ أو “وزارة التخطيط“، أو سَمِّ ما شئت من أجهزة ومؤسسات سيادية أو غير سيادية، هذا بالطبع لا يمكن فعله إلا في إطار أشمل يعيد التعريف بأهداف “النظام“ الأكبر: مصر. الخطوة التالية هي إعادة توصيل أجزاء ومكونات كل “نظام“ بشكل جديد ثم رسم آليات أدائه – ديناميات “السستم“ وحركيته – لتحقيق أهدافه، وأن تنتظم وتتصل كل الأجهزة والمؤسسات لتحقيق أهداف هذا السستم الأكبر/ الدولة ومعه بالطبع أصحابه – المواطنون لا السلطة. الهدف الغائب هو دولة “حديثة“ وعناصرها وأنماط علاقاتها ببعضها بعضًا معروفة وظاهرة. والمأزق هنا أن الحلول الجزئية وإضافة “رقعة“ جديدة للثوب القديم لن تصلح شيئًا، ولن تحل أزمات السكة الحديد –ومثلها أي من أجهزة الدولة– بوزير جديد للنقل أو رئيس جديد لهيئتها. وهناك بدائل متعددة للحلول تُخلق من مقاربة شاملة للـ“سستم“؛ عناصره وعلاقاته وأهدافه. ولا يحتاج تحقيق هذا إلى “قوة“ بل يحتاج إلى “معرفة“؛ إلى علم وأدوات حديثة وعقول وخيال، ساعتها ربما لن يكون هناك مكان لمحدودي الكفاءة، ساعتها ربما لا نحزن كل هذا الحزن..