زياد الرحباني متجول.ستراه في محطات كثيرة.تتعارك معه بعد أن تحبه.يصدمك ثم تشفق عليه…سيرته مع الموسيقى و المدينة و السياسة والفن و المعيشة..لايمكن إختصارها في خط واحد، صاعد وهابط،ساخن وباهت ملول و متحمس....هو إرتباك السنوات الصعبة و السهلة معا، إبن الرحباني وبيروت و سليل سيد درويش وموسيقى الجاز …ولعلنا لابد أن نحدق أكثر في هذا الإرتباك وسنبدأ بهذا المقال عن حفلة زياد الأخيرة في بيروت(4يناير2019) وكاتب المقال ؛أحمد زيدان... لاعب جديد كتب تحت إلحاح سؤال : كيف اصطحب زياد رفيقه صبحي الجيز إلي ملاعب برجوازيي بيروت في ساحة الشهداء؟ صبحي الجيز الفقير اللبناني الذي غنت له فيروز مع موسيقى زياد، والحفل كان في مقرات برجوازية لبنانية كانت محور تهكم زياد ...تخيل إذن كل هذه التناقضات في سؤال واحد ..؟ وقبل أن تتوه في السؤال تابع معنا تفاصيل الحفل الذي سنرى لقطات منه في صور رولا خياط
وصلتُ إلى فندق فخم يطلّ على ساحة الشهداء في وسط بيروت في ليلة شتوية بامتياز في مطلع عامٍ جديد، وسألت نادلًا عن “حفل زياد”، فأشار لقبو “لو جراي” الذي قادني له عامل آخر. نزلت طابقًا، وبعد اجتياز بهو مستدير من رخام، استقبلني ثلاثة عاملين آخرين، قادني واحدً منهم لطاولتي داخل قاعة ذات ضوء أرجواني باهت وكراسٍ وطاولات مغطاة بمفارش بيضاء.
استهلّت فرقة مكوّنة من تسعة موسيقيين لعب مقطوعتيّ جاز، ثم دخلت مغنيّة فرنسية هندية اسمها سينثيا براون- يبدو أن إنجازها الأكبر كان بلوغها الدور قبل النهائي في ستار أكاديمي فرنسا قبل ما يزيد عن عِقد من الزمان- وغنّت أغنية “I Will Always Love You” لويتني هيوستن وتلتها بأغنية “Just the Way You Are” لبرونو مارس. صوت سينثيا جيّد، على الرغم من حضورها المتوتّر، ولكني انزعجت قليلًا من اختيار الأغاني التي تليق بعُرس بيروتي لميسوري الحال وليس بمقدمة حفل لزياد الرحباني.
خرجت سينثيا ودخلت المغنيّة السورية منال سمعان، وقالت إنها ستؤدي أغنية “أمّنلي بيت” التي كتب كلماتها ولحّنها زياد، وغنّتها لطيفة التونسية التي حضرت الحفل وجلست على طاولة محاذية لطاولتي. حيَّت منال لطيفة من خشبة المسرح، وفي أثناء تقديمها للأغنية، قاطعتها لطيفة ناصحةً إيّاها باستخدام الميكروفون الآخر لأنه “أحسن”، فتجاهلتها منال لثوان وكمّلت تقدمتها، وقبل ثوانٍ من بدء موسيقى الأغنية، نظرت منال للطيفة وأشارت للميكروفون “الأحسن” مجاملةً أو سعيًا لرضا النجمة التونسية، أومأت لطيفة، فخطّت منال خطوتين منتقلة للميكروفون الآخر على يسارها مع انطلاق الموسيقى وهمّت تغنّي مطلع الأغنية “أمّنلي…”، ولكن صوتها لم يصدح، فالميكروفون كان مغلقًا. شعرت لطيفة بالحرج وهرولت منال رجوعًا للميكروفون الأول الذي أُعدّ لها، فهي أقصر من سينثيا، لتُكمل “مطرح منّك ساكن”.
طلع زياد بجاكِت زيتيّ وتحته عدة طبقات أبرزها قميص باذنجاني وصديري. قال “بنسواره” ودفن رأسه في البيانو يلعب مقطوعة وزّعها من “My Little Suede Shoes” لتشارلي باركر، ونكّت بعدها قائلًا إن المغنّي كان مبسوطًا “بسُبّاط جابه من السويد” وكان “أسود طبعًا” و”أرخص من أميركا”.
ما لبثت أن عادت منال لخشبة المسرح لغناء “صباح ومسا”، ثم “معلومات أكيدة” من الألبوم الذي يحمل الاسم ذاته وكانت معظم أغانيه ثمرات تعاون زياد مع لطيفة. لم يُحيّ زياد لطيفة من المسرح ولو لمرّة واحدة طول الساعة والخمسين دقيقة مدة وجوده في القاعة.
يعمل زياد على مواد موسيقية جديدة مع لطيفة ويرجّح أن ذلك كان سبب وجودها في بيروت. وكانت لطيفة قد احتفلت مع زياد بعيد ميلاده الثالث والستين، وغنت له “هابي بيرث داي تو يو” قبل تلك الليلة بثلاثة أيام، وغنّت معه “بنُصّ الجوّ” في قاعة “لو جراند صالون” نفسها في حفل رأس السنة.
بعد أغنية “Just the Two of Us” لجروفر واشنطن، قالت سينثيا لزياد إن “تلك الأغنية كُتبت لأجلنا”، فردّ زياد بتلقائيته المعتادة بمزيج من الفرنسية والعربية قائلًا مرتين “هيدي معلومات مش أكيدة”.
في أثناء الاستراحة أكّد لي أحمد عبد العزيز، لاعب الترومبون المصري الذي لعب مع زياد في حفلته في القاهرة في شهر نوفمبر 2018، ما لاحظته، وهو أن زياد كان منفعلًا قليلًا في بداية الحفل قبل أن يروق ويُنكّت. لم ينظر زياد للجمهور، وكانوا نحو 150 شخصًا، في أثناء الحفل سوى مرّات تُعدّ على الأصابع، وكان نظره مُركّزًا، دون نظارات، على آلتيّ البيانو حوله جالسًا على كرسيّ مكتب بعَجَلات.
بعد الاستراحة، عاد زياد للقاعة رائق المزاج، وعمد يعزف البيانو بيديه الاثنين والسيجارة بين شفتيه. وظهرت بعد قليل إحدى اكتشافات زياد الجديدة وهي “صبية جديدة رح تغنيلنا تلات أربع أغاني لبنانية كولومبية اسمها كتاليّا”، ثم توقف لبرهة قبل أن يمزح قائلًا “كتاليّا عيونا السود” (في إشارة لأغنية وديع الصافي ومزحة من سكتشه الإذاعي “العقل زينة”).
بدأت كتاليّا وصلتها بأغنية “Whatever Lola Wants” من مسرحية استعراضية أميركية عُرضت في خمسينيات القرن الماضي. وقال زياد إن كتاليّا “هي لولا يعني”، ثم غنّت “البنت الشلبية” بمزيج من الإسبانية والعربية (وكانت قد غنّت نسختها العربية منال في الجزء الأول من الحفل). ظهرت منال مجددًا في الجزء الثاني لتغنّي أغنيتين بينهما “كيفك انت”، وعاودت سينثيا الظهور لتغنّي “I feel good” لجيمس براون و”La Vie en rose” لإيديث بياف.
ناقض زياد في تلك السلسلة من الحفلات، وكانت خمس متتابعة في القاعة نفسها بين ديسمبر 2018 ويناير 2019، معظم المواقف التي اتخذها في الماضي، ولم تكن بالضرورة المرة الأولى التي يفعل فيها ذلك فقد حضرت له حفلين أصغر بنصف الثمن في ملهى “رازز” بجادة كليمنصو في بيروت في عام 2014، ولكن حفل 2019 كان أكثرها مناقضَة لمواقف زياد مما حضرت، لدرجة أن أعمال زياد نفسها قد تسخر من حفلاته في “لو جراي”، وتحديدًا أغنيته “شو عدا ما بدا” (أنا مش كافر/1985) التي تهكّم فيها على روّاد المطاعم الفاخرة قائلًا “صرنا بدنا نبيع ألماظ الخواتم دهب المناجم لندفع بالمطاعم فاتورة الغدا” مع قرع كؤوس ودردشة روّاد في الخلفية، وهذا تحديدًا ما جرى في ليلة الرابع من يناير في “لو جراي”.
لن يستطيع الكثير من عشّاق الموسيقار اللبناني الماركسيّ تحمُّل مبلغ 150 دولارًا لحضور عرض يؤديه زياد بنصف موهبته أو أقل في فندق خمس نجوم يغادره حاضروه قبل نهايته، عرضٍ أقيم في قاعة وُضعت على طاولاتها صور زياد على الصفحة المقابلة لـ”بري فيكس مينيو”، وكأن زياد و”هضامته” لا يعدوان سوى كورس خامس “ديجستيف” (مساعد علي الهضم).
ويبدو أن زياد الرحباني اعتبر حفلته المصاحبة للعشاء هذه وكأنها في صالون منزله فلم يُحضّر لها بما فيه الكفاية أو حضّر لها بشكل كسول. والدليل ركاكة معظم خيارات سينثيا براون الغنائية التي يُسأل عنها زياد نفسه، فالليلة ليلته.
لم تفلح مُقدِّمة الحفل ماري سعد، التي ترقص على “أبو علي”، في محاكاة تعليقات كارمن لبُّس الساخرة في تقديمها لأغاني حفل “بهالشكل” الذي أقيم في كلية جامعة بيروت (الجامعة اللبنانية الأميركية حاليًا) في عام 1986، وشتّان الفارق بين حفل قُدِّمت فيه موسيقى جاز متميّزة، وآخر متواضع شاركت فيه العزف على الصحون قرقعة شوَك الروّاد الفضيّة.
بعد أقل من أسبوع، كنا على موعد مع زياد مجددًا في ملهى “30 فبراير” على واجهة بيروت البحرية على مقربةٍ من “لو جراي”. ظهر زياد مع أعضاء الفرقة تقريبًا، ولعب ريبرتوار مشابه مع تغيير بعض الأغاني، بيد أن الحفل كان أقصر وأسوء. بعد انتهاء سينثيا براون من إحدى أغنياتها، سألتُ شابًا وفتاة جلسا بمحاذاتي على البار إن كانا توقّعا سماع ويتني هيوستن وتينا ترنر في حفلٍ لزياد متسائلًا عن رأيهما في ذلك، فردّ عليّ الشاب قائلًا “ناطرين زياد”، على الرغم من وجوده على المسرح وقتها. ولكن زياد الذي انتظره الشاب، مثله مثل جودو ويوم الثلاثين من فبراير، لن يحضر، لدرجة أنه في خلال أغنيّة “Un verre chez nous”، تطلّعت المغنيّة كريستينا حدّاد لزياد شاحذةً همّته، ولكنه أبى أن يلفظ كلماته القليلة التي من المفترض أن يؤديها، فأدتها كريستينا عوضًا عنه، وجاءت الكلمات مُسعفةً لها على المسرح، كما في الأغنية، “ياخي شُو؟!“.
ما أكثر تناقضات زياد، فهو يدين “البيّاعين” ثم يسلّع بضاعته، ويؤدي “رفيقي صبحي الجيز”، عن الشيوعيّ الثائر الذي مات من برد المدينة، في عرضٍ لبرجوازيي بيروت.
على الرغم من العلاقة المعقدة بيننا وبين زياد، وبين زياد وحاله، وبين زياد وبيروت بأماكنها وطبقاتها، لزياد سحر خاص لا يقاوم ينثره في كل مكان وعلى أي حال وتحت أي ظرف، مزيج لا ندّ له من عبقرية الكتابة وحلاوة اللحن ورشاقة التوزيع وبراعة توظيف الشخصيات غناءً وتمثيلًا وسرعة البديهة التي تتجلّى في قفشاته الساخرة وحضوره المرِح. بينما كان زياد يخرج من القاعة في “لو جراي”، سأله أحد الحضور التقاط صورة برفقته، فردّ زياد قائلًا إن الحكيم منعهُ من التصوير.