المنازل البديلة،الملاجىء المؤقتة،مواقع تمركز ميليشيات المراهقين والتي تحمل على أنفها تحويل مواقع الموات الإسمنتية إلى نقاط للحياة والصراخ ، وكذا تحويل مواقع القبح الكلاسيكي القاهري إلى محطات لتكوين الصداقات الأبدية. فيلم طريق لا يتوقف.بين جغرافيات الأسفلت والترتان وحصى الشوارع الموازية لمصطفى النحاس،حبيبات الرمل التي اصطادت الضحايا على مدار أربعه عقود في مركز شباب الحي السادس، وصولاً إلى الساحة القابعة بين غابات الصنوبر على الحدود النمساوية المجرية. حيث مازال ممكناً سماع همسات الألمان الشرقيين الهاربين من برلين الشرقية في مثل هذا الشهر قبل ٢٨ عاما. جغرافيا البشر أكثر تأرجحا . إبحار بين تخوم الفنانين و”الكواحيل”. “الحريفه” وزبائن صالات الجيم . جغرافيا الحفاة وأصحاب الباتا والأحذية “اللوتو” المقلدة. جغرافيا الشجارات المحتدمة لحسم صحه هدف من عدمه أو نسائم الساعة السادسة صباحاً التي تقتحم شوارع الحديقة الدولية الفسيحة برفقه طلاب الأزهر الماليزيين،وصولاً الى ذرات طين العشب الصناعي المتطايرة بفعل مراوغات البرازيليين الذين يحتلون حي “انطونيو ماتشادو” في مدريد. يصرخون من الإنطفاء المفاجيء لكشافات النور قرب حلول المغرب، ليشرعوا في صب اللعنات ببرتغالية راقصة،تكاد تطابق لغه اللوم بين الفريق الواحد في ملاعب “إسطبل عنتر”. كرة الشارع هي أول فرصة لمعرفه إنطباع العالم عنك.أول إقرار بموقعك في ذلك العالم . هل انت صاحب الكرة الذي يتملقه الجميع طمعاً في مكان بالفريق.أم “الطيشه” الذي يتم ضمه فوق البيعه كعلبة كبريت في كشك لبيع الحلويات أو إنك الجول للسلطة؟ الذي يتقدم للهجوم أحياناً كرشوة مقنعه لإجبارك على الوقوف كحارس مرمى مرابط بين الطوبتين. هل انت بطل اللحظات الاخيرة أم جزار متخصص في إصابة الآخرين؟ أم أنك المنبوذ الذي يتحاشى الجميع تمرير الكرة له إعتقاداً منهم أنك قبطي؟ هل انت اللاعب المثالي في الفريق الخاطىء لنحو ١٥ عاماً؟ هل تجيد إستخدام الطرق السبعة لسُباب أجداد وأمهات المنافسين؟ أم انك كل ما سبق؟ أم انك مثل “زابو” ملك ساحات جزيرة “مارجريتا” في قلب بودابست في نهاية الثمانينات.طويل الشعر مبتور الذراعين.والذي يتواجد في الساحه لسبع ساعات يومية لأنه ببساطة يشعر بأنه على قيد الحياة ؟
-“أنت قادم من أي مكان في فرنسا تحديداً؟”
-“يمكنني القول بأني قادم من الجنوب”
*سؤال من جريجوري الفتي الروماني ذي ال15 عاماً أثناء انتظارنا للمباراة القادمة أمام “الخفافيش”
عذراء الأسفلت
في 26 مارس 2005 في محطة “مونكلوا” ذات التاريخ المؤلم خلال الحرب الأهلية الأسبانية في ثلاثينات القرن الماضي، كانت الأنوار تقتحم عربة المترو المكتظة بالطلبة ، تمهيداً لنزولهم المحطة التالية ثيوداد يونيبيرستاريا “المدينة الجامعية”، لا يتركون مساحة للوقوف أو حتى الجلوس ، يفترشون الأرض ، هناك مساحة صغيرة فقط أتاحت لي فرصة اكتشاف صورتي على انعكاس الباب الزجاجي للمترو ، في منطقة النفق بين المحطتين ، لقد وجدت شخصاً بذقن كثيفة لم ألاحظ نموها السريع ، تبدو متسقة مع السترة الكحلية الجينز دون الأكمام ، كنت أبدو تماماً مثل “سيربيكو” في فيلم عام 1973 ، هذا لم أتعمده مطلقاً ، ولكني علمت أني سأحرص على ارتداء نفس الملابس كل يوم ، إنها المرة الأولى التي أعرف فيها الانسجام مع تلك المدينة … مدريد.
أشعر بالانسجام مع عروض المترو التقليدية ، بداية من طالب المال لعلاجه المكلف ذي اللكنة غير المعروفة ، أو الراهبة الكوبية التي تحذر عدم المنصتين لها بعذاب قادم في العالم المقبل. لقد انسجمت مع كل هذا العبث اليومي بسبب مستطيل من الأسفلت معروف باسم ملعب “باسيو دي لا بيرخين” (ممر العذراء) للكرة الخماسية ، في حديقة قرر أحدهم أن يسميها حديقة أثينا ، في سياق تبدو معه المدن كلعبة الليجو كبيرة تنتقل من شخص لآخر ، لعبة خالية من المنطق بأسماء تخيلية ترضي غرورنا ، نمحو بها ذكريات مؤلمة ، فيما عدا لحظات قليلة يمكننا اكتشاف إننا صنعنا قواماً رائعاً.
لقد كنت عائداً للتو من باسيو دي لا بيرخين ، الاستثناء الوحيد لمدينة قد تكون بالغة البهجة أو القسوة ، المستطيل الوحيد من تلك الحالة المزاجية المتقلبة ، ركام كامل من بقايا الأشهر الست الماضية ، كرات تنس الطاولة المتكسرة بالقرب من الطاولة الحديدية المهملة بجانب الملعب ، الأسلاك المعدنية المتقطعة عمداً لتسهيل عملية الدخول للساحة ، حائط جيري قصير عامر بالثقوب و وسوم الجرافيتي لملوك حي بويرتا دي أنخيل الذي يتبعه الملعب ، جرافيتي وحيد يكسر مئات الوسوم غير المكتملة ، مصحوب بجملة “لا للحروب بين الشعوب ، نعم للحروب بين الطبقات” ، بتوقيع من أشهر جماعة أناركية شبابية للحي.
بجانب الجرافيتي يرقد خيسوس سانشيز اليساري الراديكالي بكوفيته الفلسطينية ، والذي دخل في مواجهات عنيفة مع الشرطة في مقاطعته أستورياس مناصراً لإضراب عمال المناجم ، رايان (وليس برايان) أدامز يخرج من مشغل ال”ام بي ثري”الخاص به على نحو لا ينقطع ، بجانبه رفيق الشقة التشيلي فيرناندو ، المتلزم على نحو متزمت بعقيدته الهندوسية الجديدة ، ليوناردو الكولومبي العاشق للحياة الليلة المدريدية ، والتي يعتبرها أفضل مدينة في العالم ، بجانبه مواطنه كاميلو ذو الوجهين والذي لا يمكن الوثوق به ، ومعه رفيق مسكنه دانييل الذي يشبه المسيح في كل تفاصيله ، فيما عدا بنطلون الجينز المتقطع من ناحية الركبتين ، برفقته نيكول الفتاة الأمريكية السمراء الخجولة معظم الوقت ، والتي لا تجيد كرة القدم إطلاقاً ، ولكنها وسيلتها الوحيدة للتدرب على اللغة الإسبانية بشكل منتظم ، حتى وإن كان قمصيها الذي يشير إلى قسم بوليس نيويورك الأسود بالحروف الصفراء لا يروق للعديد ممن يشغلون الحوائط الأربعة للملعب ، خاصة الصيني دوك دي ، والمجموعة البوذية الجديدة من أصحاب الذقون الطويلة المكونة من رافا الأرجنتيني ،وباولو المكسيكي ، إيجناسيو من أوروجواي وبقيادة التشيلي إيفان ، المغربي وحيد وصديقه سفيان الجزائري مازلا يشعران بالتوجس مني ، لم نلعب سوياً لمدة ستة أشهر كاملة.
الخفافيش
الرجل الخمسيني التشيلي إدجار وابنه المراهق الذي لا يجيد اللعب رغم محاولات والده لاقحامه بأي شكل ، على عكس صديقه الإكوادوري بايو ، والذي يقود بحرفية عالية فريقه المكون من أرجنتينيين قادرين على سحق خصومهم بدنياً ، وفتاتين من المكسيك في الصف الثانوي ، الياباني ماتسو مثل صديقه الكيني بول ينتظران على الخط بدون أي فريق من أجل “تلقيط الرزق” مع أي فريق في حاجة للاعبين ، بول لا يتوقف عن تكرار نفس حكاية القارب الذي عبر به المتوسط وصولاً إلى الشاطيء الإسباني.
الضيوف الجدد لهذا الأسبوع كان ثنائيا من الكاميرون (أحدهما كان يحمل الكاسيت الخاص به والذي يقفز منه ألبومات متوالية لمارفين جاي)، معه الأمريكي الغامض ستيفي ، ومعهم المراهق الروماني جريجوريو الذي لا يتأخر في الاندماج مع كل أعضاء الفرق التي تحيط بباسيو دي لا بريخين ، ومنهم زميله الجديد بالفريق ، بيثيني جالو فى مطلع العشرينات، قادم من مكسيكو سيتى يرتدى بندالة مشابهة لإيفان “قائد البوذيين” ، يبدو طيباً و بسيطاً فى التعامل. له ابتسامة طفولية مميزة. فى المقابل يبدو صديقه الاحتياطي ميجيل هادئاً له تعليقات مميزة، لديه أطول ذيل حصان شاهدتها حتى الآن. طويل القامة، يبدو فى مطلع الثلاثينات ، من النوع المجرب ،حيث مكث لأعوام فى المغرب و شمال افريقيا، كما مكث لأعوام مماثلة فى وسط أفريقيا، و من ضمنها الكونغو “زائير”و تحديداً فى العاصمة كينشاسا.
باسيو دي لا بيرخين كان أكثر مخيم لاجئين أناقة ، أسراب البط البري التي تمكث في بحيرة حديقة أثينا الصناعية تحلق فوق الملعب ، بعضها يستقر على الكشافات الليلة التي لا تكشف شيئاً مطلقاً بعد غروب الشمس ، أنا ألحظ هذه الأسراب قبل أن أحدق بشكل استفزازي في عين خوان ، قائد فريق “الخفافيش”، الاسم الذي أطلقته على أفضل فريق كرة قدم خماسية رأيته على الإطلاق ، خماسي إسباني على قدر من العجرفة يليق بالأشهر الست التي لم يخسر فيها بباسيو دي لا بيرخين ، منها 24 خسارة متتالية لي أمامهم ، ولكن هناك عشرات الأسباب لكافية للتحديق في قائدهم ، ربما هو كرهي للوشم الذي يحتل ذراعه الأيمن لتنين عملاق يبدو خاشعاً أمام شعار فريق ايه سي/دي سي ، وشم ملون ثمن الحصول عليه أكبر من ثمن حذائي المثقوب في مباراة قبل أسبوعين ، ربما السبب هو الشهور الستة الماضية من الأحكام المسبقة والتلمحيات السخيفة في مدينة مازالت تعاني من توابع تفجيرات 11 مارس 2004. خوان ينظر لي باستهانة متسقة مع الإمكانات التي يملكها ، بالمقارنة مع فريقي الفرنسي بالكامل ، كريستوف صاحب الأصول البيروفية ، أنطون وزافيير وداميين ، ثلاثي المهاوويس القادم من بوردو ، والذي يعيش حالة صراع داخلي بين التزامهم الديني الكاثوليكي وبين دراستهم لإدارة الشركات متعددة الجنسيات ، خاصة زافيير الذي كان يخطط لكي يصبح راهباً في المستقبل.
في باسيو دي لا بيرخين لن تقتحم الشرطة المكان حتى لو كانت رائحة الماريوانا تغزو جنبات الملعبات قرب غروب الشمس ، لن يطلب منك أحد إبراز تحقيق الشخصية ، أو تصريح العمل ، مفارقة كبرى أن يكون المكان الأكثر اتساقاً وانسجاماً هو نفسه الذي تعتمد قواعده على التصادم ، على قاعدة البقاء حياً لأطول فترة ممكنة ، بقانون صريح مفاده “الفوز بهدفين متتاليين أو خلال عشرة دقائق فقط …أيهما أسرع” ، الهزيمة معناها انتظار قرابة ساعة قبل أن تلعب مجدداً ، المكان الوحيد الذي تم اعتباري فيه فرنسياً لكوني ضمن فريق فرنسي بالكامل ( هو نفسه مكون من أعراق ومذاهب مختلفة) ، السياق نفسه يسمح أن أكون فرنسياً في ظل غابة الأحكام المسبقة التي نسبح فيها ، “ممر العذراء” هو المكان الوحيد الذي سمح لي بالنظر بالتحدي الكافي لواحد من أبناء البلد ، مكان يحيط به جنوباً نهر مانثاناريس الضحل ، قبة كنسية سان فرانثيسكو المميزة شرقاً ، وشمالاً القصر الملكي نفسه على ارتفاع شاهق وكأن أهله يتابعونا من أعلى وعن كثب ، باسيو دي لا بيرخين ومعه حديقة أثينا كانا مدينة مستقلة بذاتها لمدة أربع ساعات يومياً لمجموعات المطاريد والأناركيين والطبقة العاملة اللاتينية التقليدية.
“ممر العذراء” كان مفتاحاً مهماً لفهم مدريد وتناقضاتها الخاصة، لنيل الثقة البطيئة من جانب وحيد وسفيان، أن أقتنع كلياً بأن فتاة يمكنها أن تكون زميلة ذات دور مهم بالفريق ، والأهم هي كمية الصلبان المعقوفة المرسومة من قبل جماعات اليمين المتطرف ، وكمية الحبر الأحمر التي تم بها شطب تلك الرموز من قبل الأناركيين ، لقد كانت مفتاحاً مهماً لفهم البقاع المختلفة التي أتى منها أعضاء الفرق الأخرى ، والأثمان التي تم دفعها للوصول إلى تلك النقطة من الرحلة ، عن ما يكرهونه بالفعل في مدنهم الأصلية ، مفتاح بالغ الأهمية لفهم ذلك الدور الذي لعبه ملعب حي باديا دي باييس في برشلونة العامر بالمهاجرين العمال القادمين من إقليم أندلسيا الجنوبي خلال السبعينات ، إنه نفس الملعب الذي يحمل اسم أحد رواده السابقين ، اسم سيرخيو بوسكيتس ، فهم أهمية الطابع العمالي لحي فويرتي أباتشي في بوينوس آيريس ، الذي كان مجمعاً لكل الموهوبين من أصحاب الخلفيات الاجتماعية المتواضعة التي لا تملك فرصاً عملية لشغل أي موقع في المجتمع الأرجنتيني ، أو حي كارلنخين في روتردام ، والذي كان المدخل الأساسي لروبين فان بيرسي للدخول داخل أجواء الجيل الثاني من المهاجرين المغاربة ، بفضل مستطيل اسمه “القفص” كان مرتعاً لكل ما بوهيمي غرائبي ومهمل في روتردام.
القفص
باسيو دي لا بيرخين كان على المستوى الشخصي بمثابة ملعب روكيفيللر الشهير لكرة سلة الشوارع في نيويورك ، ذلك الملعب الذي بإمكانه أن يكون سرداً مهماً لتركيبة المجتمع الأمريكي خلال ال50 عاماً الماضية ، كيف يتحول الجيتو إلى موجة ثقافية سائدة ، ضحايا التمييز والأزمات العائلية الخاصة بالعائلات السوداء في نيويورك مثل Dr J وبيرنارد كينج ، وتحولهم لرموز للمدينة نفسها ، التي كانت تعاني تمييزاً عنصرياً ضمنياً بطيئاً وربما ممنهجاً خلال السبعينات والثمانينات ، مروراً لكسر فكرة الجيتو ، بانضمام فتى أبيض إلى صحبة أشرس نجوم الملعب ، فتى أبيض باسم كريس مولين يبدو ناعماً نحيلاً ، مورست ضده عنصرية مضادة ، إلى أن اكتشفوا وجود وحش لا يقل شراسة عنهم ، ليتخطى فكرة قبوله اجتماعياً ، ليصل إلى أن يكون رمزاً لتنوع المدينة العرقي ، حتى في أكثر الفترات توتراً ، نفس الأمر يمكن تأمله في نوعية اللاعبين التي تخرج من مدينة صناعية متخصصة مثل ديترويت وجدت في فريقها ديترويت بيستونز هويتها الخاصة ، بقدر كامل من الخشونة والصلابة ، العناد ، مسألة حسن السمعة هو أمر يخص المتعجرفين في بوسطن أو نيويورك أو شيكاغو.
أثناء تحديقي في خوان أمكنني تذكر البقاع التي أتيت منها ، مركز شباب الحي السادس بأرضيته البلاط المخلوطة بحبيبات رمال تفقدك التوازن ، أو ثمانينات مدينة نصر التي لم يكن بها سوى أطنان الرمال والاسمنت والزلط في “الرغوة المعمارية الكبرى” التي كانت تنتظر العائدين من الخارج ، لتصبح الفترة الذهبية لكرة الشوارع في احتلال تلقائي لكل تلك الأماكن الشاسعة الفارغة ، منها حديقة الطمي الأسود المهجورة والتي كانت محوراً لصراع عصابتي “ميدو وميزو” من ناحية أو “حسام وعصام” من ناحية أخرى” لم يكن هناك مفر من اختيار بينهما ، إلى أن تم طردنا منها بعد أن تم تعين صاحب الفيلا المقابلة كوزير للري ، اكتشاف أن عدم تمرير الكرة لي لمدة أربعة أشهر كاملة بشارع ذاكر حسين لاعتقاد زملائي بالفريق أني قبطي ، الملعب الأسفلتي لكنسية مدينة نصر، والتردد في تمرير الكرة لي باعتباري مسلماً، المباريات الصباحية لطلبة البعثات الأزهرية من تايلاند وماليزيا وجمهوريات البوسنة، والاتحاد السوفيتي السابق في السادسة صباحاً بشارع الحديقة الدولية ،أكثر مناطق مدينة نصر تميزاً للعب الكرة.
ملعب كرة السلة الخاص بمدرستي الثانوية والمكتسي بالجير المسبب للسرطان وأمراض الرئة ، وذلك قبل أن نكتشف لاحقاً أن قطر الحلقة المعدنية للسلة غير سليم هندسياً ، ولا يسمح بدخول الكرة من الأصل ، وهو ما وضع نهاية للحيرة التي اجتاحتنا لعدم تسجيل نقطة واحدة خلال تلك الفترة ، الملعب الفرعي لاستاد القاهرة في منتصف التسعينات والذي كان مرتعاً لمناطق الحفر الشبيهة بالأفخاخ ، ملاعب نادي إنبي التي دخلت موضة العشب الصناعي ولكنها تتميز بمباريات مثيرة للغثيان من طريقة لعب وتعامل اللاعبين ، والذين يشغلون مناصب رفيعة في قطاعات مختلفة من مؤسسات الدولة ، وكأنها الملخص لحالة غياب المتعة التي سادت عقدين كاملين.
وسط العبث تقبع العديد من الأمور الملازمة لذاكرة وجدانية مضطربة ، رائحة العشب في تمرين فريق تحت 14 عاماً في الثامنة صباحاً ، طبيعة المنافسة ومواجهة طبيعة “الواسطة” التي قد تحرم ناشئاً ما من الاستمرار في تلك اللعبة ، ولكنها منافسة لها متعتها الخاصة ، تماماً كيوم 17 أبريل 1997 ، والتي قدم فيها مجموعة مجهولة من اللاعبين في نفس السن إلى ملاعب نادي الشمس الأسفلتية للكرة الخماسية، ما بدأ بحالة توجس انتهى ربما بالحالة الوحيدة التي شعرت فيها بانسجام فكري كامل مع مجموعة ما أثناء تواجدي في مصر، ونظرة متطابقة لفكرة اللعبة والمتعة دون أن يكسر هذا جدية المنافسة، دون أن نتحدث بكلمة واحدة وكأنننا نقرأ من نفس الكتاب ، حالة سعادة حقيقية ، حالة تطابق فكري لم تكرر بعد أن اختفت تلك المجموعة عن الظهور حتى هذه اللحظة.
هناك عامل خارج نطاق الوعي جعلني أعلنها صريحة لخوان بأن مباراتنا معهم هذه المرة ستكون مختلفة، لها علاقة وثيقة ببقاع الماضي ، وتحديداً في تلك الملاعب ذات الطابع الرتيب السمتري المسماة بطلائع الجيش ، داخل موجة الكسب عن طريق تأجير الملاعب ، سواء كانت ذات أرضية من نوعية “الترتان” أو العشب الأخضر الصناعي ، خوان كان نسخة من أعضاء أكثر الفرق عجرفة من التي لعبت بها في مصر على الإطلاق بأحد ملاعب طلائع الجيش ، أبناء “كريمة” المجتمع التي لا تخفي طابعها العدواني ، و”البلطجي”، بل تحتفي به ، حالة احتقار علنية لفظية لبقية الفرق التي تبدو متواضعة الحال اجتماعياً بالمقارنة معهم، فكرة “التصنيف” بدلاً من المتعة هي “التيمة” الرئيسية لكل مباراة في القاهرة ، بعد إحرازي لهدف الفوز في مباراتنا معهم، واحتفالي في حالة تحدٍ كامل ، تحولوا لحالة جنون كاملة ، ليقرروا افساد المباراة عن طريق استخدام الأحزمة أو السلاسل التي كانوا يحملونها ، التهديد بالضرب ، الأمر لم يكن بالنسبة لي يتعلق بالفوز ، بل بحالة القلق التي شعرت بها طبقة “سيارات الدفاع الرباعي” ، ذلك الخوف ، ربما كان موقفاً مراهقاً طفولياً ، ولكنه بكل شك كان شافياً للصدور.
أثناء ركوبي للمترو في رحلة العودة في ذلك اليوم من مارس 2005 ، أدركت أن انعكاسي في زجاج المترو أني أصبحت جزءاً من كل ، من مدينة كبيرة ، حتى لنصف يوم ، مقرراً تدوين ما دار في ذلك “النصف” بمجرد العودة إلى المنزل ، خاصة ما أعقب الجو المشحون المتبادل مع فريق خوان.
26 مارس
لا أعلم حقيقة كيف تصنع فرق القدم، لقد لعبنا لعبة أشبه بمصر – سوريا من أجل تقسيم أنفسنا إلي فريقين، ليكون داميين و كريستوف الفرنسيين إلى جانب الرومانى جريجوريو برفقتى. كنا فريقاً أقل من العادى، لم نلعب معاً من قبل، و النتيجة بشكل عام جاءت منطقية خسرنا أول مبارتين، منها مباراة أمام “خفافيش خوان” بتشكيلتهم الكاملة. كنا على وشك الرحيل، و لكن داميين أصر على لعب مباراة أخرى. لا أعرف على وجه التحديد ما الذى حدث، فقد كان بيننا تناغم غريب خلال الست مباريات المتتالية التى كسبناها دون رحمة، أسلوب كريستوف اللاتينى كان مفاجئاً للجميع و فى مقدمتهم أنا. كنا فى حالة صعود و تجلى حتى أننا فوجئنا بفوزنا على” الخفافيش” بهدفين خاطفين، ثم فوزنا عليهم مرة أخرى، لقد كنا أول من يفوز عليهم فى الأشهر الستة الأخيرة، لقد وجدت قائدهم و هو يبدو عليه الذهول من السقوط أمام هؤلاء التافهين. كنا نلعب بسهولة شديدة و تفاهم ملحوظ، كنا نمتلك الثقة على الرغم من تأخرنا بهدف، كنا الخفافيش أنفسهم ليوم واحد. أحرزت هدفاً ثانياً من الملعب إلى الملعب. شعرنا أن الجميع يريد الفوز علينا و لو لمرة واحدة. و هو ما حدث فى نهاية اليوم لأننا كنا نريد الرحيل، و العودة مرة أخرى إلى أرض الواقع.
*ملحوظة: في واحدة من المباريات التي خضتها في القاهرة برفقة مجموعة من أصحاب المناصب الرفيعة في الدولة ، اكتشف أحدهم اختفاء حافظة نقوده ، ليقسم بكل ما لديه بأنه بمجرد اكتشاف الفاعل سيقوم بتنفيذ حد قطع يد السارق في التو واللحظة وعلى نحو علني أمام الجميع ، بعد جدال استمر نصف ساعة اكتشف صاحب التهديد أنه وضع الحافظة في جيب خلفي دون أن يدري ، وعندما حان الوقت لاستئناف اللعب ، تم إطفاء الأنوار بالمكان ، وهو ما أجبر الجميع للذهاب في صمت.